تُعَد الحوادث الجسيمة، والأزمات، والمواقف الصعبة التي تحدث بين فترةٍ وأخرى على مستوى الوطن، وفي أقاليمه، ومناطقه، وإماراته امتحاناً صعباً لمقدرة الرجال على تحمُّل المسؤولية، وحفظ الأمانة، والقيام بما كُلفوا به من المهام المطلوبة وفق تطلعات ولاة الأمر لخدمة الدين، والوطن، والمواطن.
وهنا نتذكّر ما قاله رجل الإصلاح والعدل خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – للأمراء، والوزراء، وللمسؤولين حينما ارتجل كلمته الشهيرة: “أنتم، ونحن، كُلنا في خدمة الشعب السعودي، ولا تتهاونوا في خدمة أيِّ سعودي، ولا يوجد فرقٌ بين وزيرٍ أو أميرٍ أو أقصى الشعب، وهذه في ذمتكم، من ذمتي في ذمتكم، وسأحاسبكم عليها، والله سيحاسبكم عليها”.
هذا التوجيه الكريم وضع النقاط فوق الحروف، وعزّز روح المسؤولية نحو خدمة المواطن مهما كلف الأمر فيما يتعرَّض له من مِحنِ، وأزماتِ تتطلب وقوف الدولة معه.
اين المسؤول؟
منطقة تبوك، المنطقة الغالية في شمال غرب المملكة، مرّت بعديد من الأحداث التي وضعتها في واجهة الإعلام، وفي أبرزها لم يكن المسؤول الكبير في كامل الصورة، وفي بعضها لم يكن متواجداً، وفي أقساها كان غائباً، حتى نشر هذا الخبر، وهي مأساة لمى الروقي – رحمها الله.
فقد أثارت حادثة سقوط الطفلة “لمى” في البئر لأكثر من 18 يوماً، وما تعرَّضت له عائلتها من فجيعةٍ غير متوقعة، الرأي العام السعودي بمختلف شرائحه وفئاته، ولاسيما في عجز الدفاع المدني بتبوك بمعداته وآلياته عن استخراج جثتها طول هذه الفترة وسط تضارب التصريحات بين تأكيد العثور على جثتها ثم نفي ذلك، ثم سقوطها من بين أيدي رجال الدفاع المدني إلى عمقٍ بعيد.
قصة لمى الروقي التي اعتصرت قلب كل سعودي ألماً وحزناً يبدو أنها لم تكن كافية لأمير المنطقة؛ ليقف على جهود ومحاولات إنقاذها مما كان – لو حدث – سيعزِّز المعنويات وربما يدفع إلى حراكٍ أكبر.
المتابعة الغائبة
لعل ما أثار الرأي العام السعودي بشكلٍ أكبر في هذه المأساة الإنسانية هو عدم وضوح موقف إمارة تبوك، وضعف تفاعل المسؤولين في المنطقة بالشكل المطلوب مع هذا الحدث الوطني الحزين، فلم يقم – على سبيل المثال – أمير تبوك، أو أحد مسؤولي الإمارة الكِبار بزيارة موقع البئر التي ابتلعت الطفلة لمى، ولم نشاهد أو نسمع أو نقرأ أن أمير المنطقة تفضّل مشكوراً بالوقوف على عمليات الحفر، ومتابعة الجهود المبذولة في إنقاذها، والتوجيه في عين المكان، وحثّ رجال الإنقاذ على بذل المزيد من الجهد، ولم نسمع أنه زار الموقع للاطمئنان على سير إجراءات عمليات الانتشال، ولم نشاهد سموه يتفقد رجال الدفاع المدني، ويدعمهم بمزيدٍ من التسهيلات المالية والإدارية، وتوفير الآلات المطلوبة للحفر، ولم نشاهده رغم طوال المدة – أكثر من 18 يوماً – يصرح إعلامياً بكل وضوحٍ وشفافيةٍ عمّا وصلت إليه مراحل البحث عن جثتها؛ على الرغم مما يعنيه ذلك التصريح، وتواجده في موقع الحدث، ومع المنقذين، وبقربهم، ومتابعته الدقيقة لمختلف التفاصيل من دافعٍ كبيرٍ، والمهم في التحرُّك بشكلٍ أسرع في حسم فصول هذه المأساة الإنسانية خلال وقتٍ قصير.
سيارة الوافد وأسرة لمى
أمير المنطقة الذي وجّه – قبل فترة – بشراء سيارةٍ لوافد اصطدم بعددٍ من الإبل، هو نفسه الذي ردّد في أكثر من مناسبة تأكيده على توجيهات القيادة التي تنص على أنه “لا شيء أهم من المواطن في أيِّ جزءٍ من بلادنا الغالية”.. إلا أن ذلك لم يكن حاضراً أخيراً، وكانت أسرة لمى في حاجةٍ إلى وقفةٍ ماسّة تُجبر بعض مصابها وتشعرها بقرب المسؤول انطلاقاً من دوره وغيرته قبل أن يكون ذلك واجبه.
إن أقصى ما قام به الأمير هو لقاء عددٍ من أقارب الطفلة في مكتب، وطمأنة أهلها بقوله “لمى ابنتي، وأنا متعاطف معها، ومع والدها ووالدتها، وأشعر بصعوبة الأمر عليهما، لكن تأكدوا أننا سنكثّف جهودنا للوصول إليها”.
ولعل السؤال المهم: هل يكفي هذا يا سمو الأمير؟ هل التعاطف، والمشاعر الحزينة مع أسرة صغيرة فجعت في طفلتها الصغيرة كافٍ بالنسبة لك؟ أين توجيهاتك الحازمة في تسريع إجراءات انتشال الطفلة؟ مَن المسؤول عن تأخُّر عمليات الحفر، وسوء التخطيط لإدارة الإنقاذ؟ أين تعليماتك، وقراراتك الحاسمة في حثّ المنقذين على بذل الجهود، والابتعاد عن الاجتهادات الذاتية العشوائية، والبيروقراطية الإدارية المعيقة؟
الثقة الملكية لا تتجزَّأ
فيا سمو الأمير .. أنت المسؤول الأول والأخير في المنطقة عن أي حادثةٍ، أو كارثةٍ، أو مأساةٍ تقع لمواطني تلك الإمارة، فالثقة الملكية لا تتجزَّأ، بل تمنح الحق لأيِّ حاكمٍ إداري في مساعدة أبناء المنطقة، وتذليل الصعاب أمامهم، والوقوف معهم فيما لا يستطيعونه بما يكفل تحقيق تطلعاتهم، ويحفظ سلامتهم، وأبناءهم، وممتلكاتهم.. فتفقد أحوال المنطقة، ومحافظاتها ومراكزها يعد واجباً وطنياً على كل مسؤول حتى تتحقق تطلعات ولاة الأمر، وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – في توفير الخدمات، وراحة المواطنين.
أمير المنطقة هو نفسه الذي قال ذات يومٍ “كنت أريد أن أعرف هل يوجد مواطنٌ يسكن في صندقة أو عشة ونقلت الأمانة من ذمتي إلى ذمتهم، لكنهم أفادوني بأن الذين يسكنون في هذه الظروف هم العمالة فقط”.. وهي عبارة انتُقدت أيضا بشدة وكانت المطالبة بأن يقوم بالدور الأهم وهو الاقتراب من الوضع بنفسه في جولاته المفترضة لمعايشة واقع الأهالي.
كلنا يا سمو الأمير.. مسؤولون أمام الله – عزّ وجلّ – عمّا نتولاه من مسؤوليات، ويوم الحساب لن تُقبل منا الأعذار والحجج والواجب يحتم على كل مسئول أن يتحرّى بنفسه الواقع، ويتابع أداءً من هم تحت مسؤوليته.
كلكم راعٍ
وهنا نتذكّر قول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والولد راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.
وفي النهاية بقي أن نقول إن تبوك التي وقفت شامخةً في وجه السيول والثلوج واحتضنت عديداً من القصص الصعبة بقدر شموخ رجالاتها إلا أنها في حاجة إلى حضورٍ أكبر لمسؤوليها وتفاعلهم أكثر, فلقد كانت لمى وأسرتها بحاجة إلى ما هو أكثر من التصريح وإعلان التعاطف معها ومع ذويها عبر وسائل الإعلام .. لقد كانت بحاجة إلى المسؤول الأكبر في المنطقة؛ ليقف بنفسه هناك مجسّداً احتضان الوطن كلَّ عضوٍ فيه.. فهل كانت الرسالة أكثر عُمقاً في ذاكرة المسؤول؟