تستعد المعلمات المغتربات في القرى والهجر المنتشرة في بلادنا للذهاب لمدارسهن كل يوم عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وتقل وتزيد بحسب المسافة التي تتطلب للوصول إلى المدرسة، ويُعد النقل الخارجي للمعلمات هاجساً مقلقاً لهن كل عام يرتفع باقتراب إعلان وزارة التربية والتعليم عنه، وعلى الرغم من اهتمام “التربية” بتحقيق رغبات نقل المعلمين والمعلمات لأقرب مسافة ممكنة، إلا أن مستوى الرضا عن حركة النقل دون المأمول.
“أحد المصادر” تسلط الضوء على معاناة المعلمات المغتربات اللائي أجبرتهن ظروف معينة تتعلق بعدم توفر سكن مناسب في تلك القرى والهجر أو ظروف صحية وأخرى تتعلق بالزوج والأبناء، واختارت “احد المصادر” ضمن عشرات المناطق التعليمية لتسليط الضوء على حال معلمات منطقة سكاكا الجوف، اللائي يضطررن للسفر يومياً إلى منطقة “القريات التعليمية” للعمل في قراها بمسافة 370 كلم.
واستطلعت “المصادر” قصص المعاناة التي ترويها المعلمات أثناء سفرهن لقرى محافظة القريات كل يوم وعن خطورة الطريق، والمواقف التي تعرضن لها، معبرات عن عظيم أملهن أن تحقق حركة النقل هذا العام أكبر عدد ممكن منهن.
حياة منتصف الليل
تقول المعلمة “أم عمر”: نستيقظ عند الساعة الثانية ليلاً للتحضير لرحلة المعاناة، والتي تنطلق عند الساعة الثالثة والنصف فجراً، حيث يخرج السائق والذي ندفع له مقابل إيصالنا للمدرسة ١٤٠٠ ريال شهرياً، من منزله في إحدى قرى الجوف، ويبدأ بالمرور على منازل المعلمات إلى أن ينتهي من جمعهن في تمام الساعة الثالثة والنصف فجراً وهو موعد انطلاق رحلتنا.
وتبيّن المعلمة “أم راكان” حالها أثناء خروجها من المنزل إذ تقول: نخرج والأهل نائمون أقوم بتفقّد أبنائي في غرفتهم كل يوم، وأهمس لهم بأن “أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه”، أقبّلهم قبلة الوداع ثم أغادر، حيث لا تسمع في هذه اللحظات سوى إطفاء ضوء الغرفة، وفتح باب المدخل؛ وإغلاقه حتى يتهيأ لي أن كل الحي يسمعون إغلاق الباب من الهدوء الذي يخيم المكان.
وتضيف: عندما نأخذ أماكننا في الحافلة وتسير بنا نشاهد شوارع خالية تماماً من السيارات عدا حافلات نقل المعلمات، ومحال تجارية مغلقة، ومنازل صامتة كأن لا بشر فيها.
حكاية “المخمور”
وتواصل “أم عمر” حديثها قائلة: تتوقف الرحلة في الطريق لأداء صلاة الفجر في مسجد في محطة بنزين، ونذكر ذات يوم أثناء توقفنا لصلاة الفجر في مسجد المحطة، وإذا بشخص فاقد للوعي يدور على الحافلة بحركات مريبة، وخشينا منه، وقمنا بالاتصال بالسائق الذي لم يجب على هاتفه، حيث كان أثناء اتصالنا يؤدي صلاة الفجر.
وتتابع: مع تزايد خوفنا قمنا بالاتصال فوراً على عمليات الشرطة، إلا أن الشرطي بادرنا بالسؤال عن سبب حضورنا إلى هذا المكان في مثل هذا الوقت، وعن نوع السيارة واسم السائق، إلى أن فرغ السائق من الصلاة حيث كان الرجل لا يزال يدور على الحافلة، ثم قام بإبعاده وطمأنتنا بأن الأمور تسير على ما يرام.
وتلفت “أم عمر” كذلك إلى أصوات نباح الكلاب الضالة والتي تتجمع في المحطة التي يتوقفن فيها وتعترض طريقهن كل يوم حتى يُهيأ لهن أنها ستنقضّ عليهن كلما مررن من هذا المكان، مشيرة إلى أنها لا تزال مصدر خوف لهن حتى اليوم، ويأملن أن يجد أصحاب المجمعات حلولاً لها.
الزميلة المرحومة
تواصل “أم عمر” حديثها قائلة: نكمل المسير نحو عملنا يسكننا الخوف والقلق من حوادث الطرق نتيجة ما شاهدناه بطريقنا من بعض الحوادث لحافلات نقل معلمات، لا نزال نتذكر إحدى زميلاتنا والتي كانت تعمل في مدرسة بمركز العيساوية، حيث وافاها الأجل هي ووالدها -رحمهما الله- أثناء عودتها من العمل برفقة والدها قبل اختبارات الفصل الثاني العام الدراسي الماضي بفترة وجيزة.
وتردف: أكدت إحدى زميلاتها لنا أنهن ظللن أشهر وهي لا تفارق مخيلتهن، وروت إحداهن قصة دموع طالباتها حين تسلّمن أسئلة الامتحان التي أعدّتها المعلمة قبل وفاتها، حيث خيّم الحزن على قاعة الامتحان على معلمتهن التي كانت وحتى توفيت من خيرة المعلمات أدباً وخلقاً وحرصاً على طالباتها.
الوصول قبل أهل القرية
وتتابع إحدى المعلمات حديثها عن رحلة الموت بقولها: رغم تحويلات إصلاحات الطرق المتكررة والتي نعاني منها نتيجة تباطؤ العمل فيها، ما يدفع قائدي المركبات لاتباع مسار واحد نصل أحياناً إلى مدارسنا قبل وصول أهل القرية في بعض الأوقات، حيث نصل ونحن نعاني من الجهد البدني والنفسي من تعب الطريق اليومي، ومع هذا كله نُطالَب بأن نؤدي عملنا على أكمل وجه.
وتضيف: مع مرور سنوات انتظار النقل والسفر يومياً بمسافات طويلة أصيبت بعض زميلاتنا بألم الركب، وألم في فقرات الظهر من طول الجلوس لساعات طويلة في مقعد الحافلة، ونحن مجبرات على السفر يومياً؛ لعدم وجود مكان مناسب للسكن، ومنا من يرفض زوجها أن تسكن وحدها ناهيك عن عدم توفر الحد الأدنى من الخدمات في تلك القرى الصغيرة.
“الناجية” تروي حكايتها
المعلمة “ع” الرويلي والتي أصيبت بحادث مروري أواخر شهر محرم من العام الحالي وتوفيت إحدى زميلاتها -رحمها الله- في ذات الحادث، روت ، قصتها، إذ تقول: أسكن في مدينة سكاكا، وكنت أعمل في محافظة طبرجل بمتوسطة التحفيظ، وحصل لنا حادث أثناء عودتنا على طريق أبو عجرم 25/ 1/ 1435هــ وأصبت بكسور عدة وخلع بالركبة اليمنى، وتوفيت زميلتي رحمها الله، وأصيبت إحدى زميلاتي بكسر بالترقوة وأجريت لها عملية الطحال، كما أصيبت زميلتي الأخرى بكسر في اليد ورضوض بالجسم.
وتابعت: بعد الحادث رفعت تقاريري لمستشفيات الرياض، ولم يتم الرد، وبعد خروجي من المستشفى بتاريخ 15/ 2/ 1435هـ بنحو أسبوعين تقريباً قرر زوجي نقلي للأردن، وتحمل معاناة السفر في واقعة هي أشد مراحل حياتي صعوبة نتيجة الآلام التي كنت أعانيها وما زالت.
وأكملت: رفعت طلب نقلي للظروف الخاصة بتاريخ 23/ 6/ 1435هـ وأفادونا بأنه لا يتم الرفع إلا في بداية السنة الجديدة، وعند مراجعتنا بعد أسبوع من بداية الدراسة للاستفسار عن المعاملة أفادونا بأنه لا تعقد اللجنة إلا بعد خمس معاملات أو أكثر، وما زلت حتى الآن أنتظر رفع المعاملة.
وتابعت “ع” الرويلي: لم يتواصل معنا أحد في “التعليم” سوى مشرفة حضرت في بداية الحادث، وبعدها لم يتواصل معنا أحد نهائياً ولم يسأل عن حالتي أحد.. أنا لا أريد سوى الاقتراب لمنزلي وأولادي الخمسة، لقد أصِبْت بحالة خوف ورهاب من حوادث الطريق والمعاناة اليومية من السفر ذهاباً وإياباً، وها أنا صابرة ومؤمنة بقضاء الله وقدره، وراجيةً من الله أن تحل مشكلتي وينتهي هذا الكابوس المرعب.
مغتربات الوطن
معلمات أخريات قلن “: حالنا هذا لا يقتصر على معلمات سكاكا والجوف فحسب، بل هذا حال جميع المعلمات المغتربات في وطننا، حيث يواجهن مآسيَ وقصصاً مروعة ومرعبة كل يوم.
وعبّرن عن أملهن بأن تحقق حركة النقل الخارجي لهذا العام جميع رغبات المعلمات وأن تنتهي معاناتهن مع الطرق التي باتت تشكل خطراً حقيقياً يهدد حياتهن، وناشدن وزير التربية والتعليم الأمير خالد الفيصل بأن يكون صاحب السبق في إيجاد حلول تحدّ من مآسي رحلات الموت.