– * القرني: مهنة تستقطب عشرات ممَّن يدّعون المعرفة.
– * العنزي: تزايد غير المتخصّصين يهدّد الأمن النفسي والاجتماعي ويخلق الأزمات.
لم تتوقع المواطنة “م . ن” يوماً أن تعصف بحياتها الأسرية استشارة خاطئة تسبّب في طلاقها بها أحد المستشارين الاجتماعيين المجهولين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مستغلاً ثقتها بمَن ادّعى علماً معرفياً مقابل ما تعانيه الزوجة من ضعفٍ نفسي من جرّاء مشكلةٍ عابرةٍ مع زوجها كان بالإمكان حلُّها قبل تفاقمها بتلك الاستشارة الخاطئة.
ولم تك تلك الحالة هي الضحية الوحيدة، حيث أسهمت فوضى سوق الاستشارات الأسرية والتخبط الذي لا ضابط له، في تخبيب مديرة مدرسة على زوجها وطلاقها منه، كما اتهمته بخداعها والاستيلاء علي منزلها بحي الشرائع؛ مبينةً أنه باعه بمبلغ 4 ملايين، كما باع أرضاً لها بالمنطقة الجنوبية بمبلغ 250 ألفاً، وفقاً لروايتها ؛ موضحة أنه بعد ذلك تخلي عنها؛ ما جعلها تطرق أبواب الجهات المختصّة وعدد من المشايخ المعروفين لاستعادة حقها المسلوب؛ مستندة إلى 400 رسالة غرامية بينهما بعد أن لجأت إليه كمستشارٍ أسري استغل مشكلاتها وأسرارها الشخصية في استدراجها لتحقيق رغباته.
تنامي عدد مدّعي المعرفة
اعتبر الأستاذ الدكتور محمد القرني أستاذ العلاج الأسري في جامعة أم القرى، أسباب ما شهده المجتمع السعودي أخيراً من تنامٍ في افتتاح عديدٍ من مكاتب الاستشارات الأسرية التي تستقطب العشرات ممَّن يدّعون المعرفة بممارسة مهنة الإرشاد الأسرية، في أمور عدة؛ منها حداثة المهنة، وغياب المؤسسات التعليمية عن إعداد برامج أكاديمية ومهنية لإعداد الكفاءات لممارسة الإرشاد الأسري.
وقال القرني : “في ظل هذا الغياب المؤسّسي بدأ ظهور مدّعي العلم والمعرفة بهذا المجال، وأصبحت هذه المهنة مهنة مَن لا مهنة له، وكانت النتيجة متاجرةً بآلام الناس ومعاناتهم وتسويق الوهم لهم.. وزاد الطين بلة غياب الجهات الإشرافية والرقابية عن تقنين ممارسة الإرشاد الأسري وتمهين العمل داخل مكاتب الاستشارات الأسرية، مما صعّب على المسترشدين معرفة أين يذهبون طلباً للمساعدة والتحقّق من كفاءة مقدمي الخدمة العلمية والمهنية”.
تصدّي غير المختصيّن
فيما طالب د. فرحان بن سالم العنزي استشاري الإرشاد الأسري عميد كلية التربية بجامعة حائل مستشار الأسرة والزواج بمركز “واعي”، بضرورة وجود ترخيص مزاولة مهنة للمستشار الأسري، وكذلك ترخيص للمراكز التي تقدم الخدمات الاستشارية يرتبط بتحقّق معايير للجودة من أهمها تخصُّص وخبرة المستشارين ومدى إسهامهم في خدمة المجتمع ووجود رخصة مزاولة المهنة.
وأشار العنزي في حديثه،، إلى أن تمكين غير المتخصّصين في التصدّي لتلك الاستشارات يجعل الضرر أكثر من النفع في افتقاد الخبرة والتخصُّص وما يترتب على ذلك من توجيهات سلبية نتيجة الممارسات الخاطئة؛ تعمل على تأجيج المشكلات بدلاً من التوافق معها، وتعطل الاستفادة من كفايات الأسرة في الإرشاد والعلاج وتجعل من الأسرة بيئة طاردة بدلاً من أن تكون جاذبةً، ما يسير الأسر على غير هدى؛ الأمر الذي يهدّد الأمن النفسي والاجتماعي ويحدث الأزمات في المجتمع ويضيّق الفرصة من الاستفادة من ذوي الخبرة والاختصاص.
وسائل الإعلام شريكة في تأجيج الظاهرة بتلميع الدخلاء
فيما اتهم مقدم البرامج الاجتماعية الاعلامي حمد عبد الرحمن الدوسري، وسائل الإعلام في تأجيج الظاهرة بتلميع بعض الدخلاء على هذا المجال واستضافتهم والتعريف بهم كمستشار أسري، ويليها مراكز التدريب الأهلية التي تمنحهم هذا اللقب بعد دوره قصيرة، يقدمها مدربون بشهادات بعضها وهمية أو غير معتمدة، ليشرعوا في مزاولة المهنة مستغلين ضعف ثقافة الاستشارات في المجتمع بمعرفة مَن هو الشخص المؤهل لتقديم الاستشارات.
وناشد الدوسري، عبر مُعدي البرامج التلفزيونية تغليب الحس الوطني والاجتماعي والإنساني في التأكّد من مصداقية الضيف وشهاداته وخبرته قبل تقديمه للجمهور؛ مؤكداً ضرورة أن تكون هناك جهة من الوزارة تمنح ترخيص (مستشار أسري) وفق ضوابط دقيقة.
لا بد من وجود قوانين رادعة
ولفتت أخصائية علم النفس العيّادي نورة الأحمري، الى ان الإرشاد والعلاج الأسري يتعاطى مشكلات أسرية ذات طابعٍ معقدٍ وحساس يحتاج إلى متخصّصين أكثر وعياً بهذا التداخل وقدرةً في تطبيق المهارات الإرشادية والعلاجية، مؤكدةً أن مثل هذا المجال من الصعب حكره على أخصائيين في مجالات مختلفة لا يعني عدم أهميتها؛ بل لا بد أن يكمل بعضهم بعضا تحت مظلة الإرشاد والعلاج الأسري.
وأشارت الأحمري في حديثها إلى استغلال بعض الدخلاء لهذا التخصُّص لأهدافٍ مادية بحتة؛ بل بعضهم قد آذى هذه الأسر دون أدنى علمٍ بحجم الضرر الملحق بهم؛ ما أسهم في ارتفاع معدلات التفكك الأسري، مطالبةً بوجود قوانين رادعة تعطي المهنة مكانة مهمة موازية لمكانتها الفعلية تجعل من الأسر المستفيدة من هذه الاستشارات أكثر ثقة بجودتها وسرية الخدمة.
كشف الأسرار الزوجية سلاح ذو حدين وخيانتها تضر بالمجتمع
من جهتها، قالت أفنان عبد الكريم الجميل، معيدة كلية الخدمة الاجتماعية في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، : “لا مانع من كشف بعض الأسرار الزوجية للمصلحة من أجل استشارة طبيب أو خبير اجتماعي، لما كشفت عنه خولة بنت الأزور -رضي الله عنها – من سرٍّ زوجي طلباً للاستشارة، قال تعالي: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) فقالت يا رسول الله: أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني.. اللهم إني أشكو إليك، فنزل جبريل بهذه الآية”.
وأضافت الجميل: “إلا أن بعض ضعاف النفوس مدّعو علمٍ ومعرفةٍ لأهدافٍ دنيئة، يستغل تلك الفسحة الربانية في السماح بكشف الأسرار لحاجةٍ، متناسياً أن حفظ الأسرار واجبٌ أخلاقي تقتضيه مبادئ الشرف والأمانة، والقوانين والشرائع السماوية كافة، ليس فقط لحماية صاحب السر ومكانته ومركزه وشرفه؛ بل أيضاً لصيانة المصلحة العامة في المجتمع، وعدم تعريض سمعة المهن والمراكز السامية النبيلة للإهانة أو لعدم الثقة والاحترام”.
وأكّدت الجميل، وجود عددٍ من الآثار المجتمعية لاستغلال أسرار الناس؛ خصوصاً في المهن التي تلامس احتياجاتهم كالاستشارات الاجتماعية والطب والمحاماة والقضاء والوظائف وغيرها. فإن لم يجد المريض طبيباً يركن إليه ويودعه سرّه، أو لم يجد المتهم محامياً يطمئن إليه ويصارحه بسرّه، أدّى ذلك إلى المسِّ بحقوق الإنسان والإضرار بالمجتمع ككل، ناهيك عن استغلال تلك الأسرار في جرائم الابتزاز والتخبيب وغيرها مما طالعتنا به “سبق” أخيراً.
٤٠ ألف حالة استقبلها مركز إرشاد خلال أقل من عام
من جهته، كشف محمد فهد السبيعي المدير التنفيذي لمركز إرشاد للاستشارات الاجتماعية، عن تلقي مركزهم المرخص من وزارة الشؤون الاجتماعية خلال عام ١٤٣٥ عدد مكالمات ٣٩٨١٥؛ مشيراً إلى أن كثيراً من الحالات وصلت للمركز تعاني تشتتاً أسرياً وحالات على وشك الطلاق بعد استشارةٍ من شخصٍ وهمي غير معروف باسمه وسلوكه.
وقال السبيعي: “يقدم المركز استشارات أسرية مجانية من خلال نخبة من المستشارين والمتخصّصين في المجال الأسري وخريجي تخصُّصات اجتماعية علم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وتخصُّصات تربوية ومدربين تدريباً دقيقاً في مجال تقديم الاستشارات الأسرية من خلال الاتصال الهاتفي وقريباً الجلسات المباشرة”
وطالب السبيعي، المسترشدين بضرورة أخذ الحيطة والحذر واللجوء الى طلب المساعدة والمشورة من المراكز المتخصّصة في تقديم الاستشارة الأسرية؛ مؤكداً أن المتخصّص في الاستشارة لا يحتاج إلى اسم المسترشد أو معلومات شخصية سوى المعلومات الضرورية في تشخيص حالته وهي آلية عمل المركز لديهم.