
في مشهدٍ سياسي متشابك يجمع بين التوتر الدولي والدراما الداخلية، يواجه البيت الأبيض تحديات أمنية وسياسية تهز أركان الثقة العامة، وتتوالى الأحداث في خضم تسريب معلومات حساسة عبر تطبيق “سيجنال” عن عمليات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن من خلال كِبار مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترامب؛ ما أثار ردود فعل حادّة من أعلام السياسة والإعلام.
تفاصيل حاسمة
ويزعم البيت الأبيض أن ما انتشر على دردشة خاصّة بين كِبار المسؤولين حول تفاصيل ضربات عسكرية في اليمن ليس إلا خدعة مدبرة، معتمدًا على تصريحات صحفية من متحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت؛ إذ وصفت القضية بأنها “خدعة كبيرة”، مستهدفة بذلك خصوم الرئيس ترامب؛ والتأكيد على أن الجمهوريين لا يفشلون في انتقاد الحملات الإعلامية المعادية، وفي هذا السياق، برّر المسؤولون التسريب بأنه لا يحمل في طياته أي معلومات مضرة؛ بل كان بمكانة نقاش حول سياسات الهجوم، ما أظهر مدى التسامح السياسي مع تجاوزات قد تحمل عواقب خطيرة على أمن الطيّارين الأمريكيين في أثناء عملياتهم ضد الحوثيين في اليمن، وفقاً لشبكة “سي إن إن” الأمريكية.
وتحت ضغط الأخبار العاجلة، حاول ترامب الدفاع عن فريقه وتبرير ما وصفه بأنه مجرد تفصيلات تشريعية سياستيه، ففي ردة فعل سريعة، نقل الرئيس عن نفسه أن التفاصيل المتعلقة بالهجمات لم تكن ذات أهمية قصوى، وأن مستشار الأمن القومي، مايك والتز؛ كان قد تحمل المسؤولية الكاملة عن إضافة أحد المحررين إلى المحادثة، وهو الأمر الذي اتُهِم به. وهذا التبرير يكشف عن إستراتيجية متبعة في إدارة الأزمات، تتمثل في حماية صورة الإدارة مهما كان الثمن، والتركيز على مهاجمة أصوات النقد بدلاً من معالجة الأخطاء الفادحة.
غرور مقلق
برزت أهمية هذه القضية عندما كشف التسريب عن تفاصيل دقيقة حول توقيت الهجمات وأهدافها وأدوات الأسلحة المستخدمة، وتضمن النص الوارد من الدردشة معلومات حساسة مثل “215et: انطلاق طائرات F-18” و”1345: بداية نافذة الهجوم الأولى”، مما يوضح مدى خطورة الإفصاح عن عمليات سرية قد تُستغل من قبل جهات معادية. وفي ظل هذه الملابسات، تبرز المخاطر العملية التي قد يتعرّض لها أفراد القوات الأمريكية في المستقبل، إذ إن مثل هذه التسريبات تفتح الباب أمام أجهزة التجسس الخارجية لاعتراض المعلومات المهمة.
وتعكس ردود الفعل الحادّة تصريحات من كبار السياسيين مثل السيناتور مارك وارنر، الذي وصف ما حدث بأنه “مستوى من الغرور وعدم الكفاءة مقلق”، وهذه المخاوف لم تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل التأثير السلبي على سمعة الدولة الأمريكية في الخارج. إذ إن تسرب مثل هذه المعلومات قد يؤدي إلى انقسام داخل وكالات الأمن القومي الأمريكية، مما يضع استقرارها التشغيلي على المحك، خاصةً في وقتٍ يحتاج فيه الأمن إلى أقصى درجات اليقظة لضمان حماية الأفراد والمؤسسات الحيوية.
خلفية تاريخية
تشير التجربة السابقة إلى أن مثل هذه الخروقات قد تترك أثراً بعيد المدى على مسيرة كبار المسؤولين في القيادة الأمنية الأمريكية؛ فقد شهدت الساحة السياسية تغيرات سريعة في دور هؤلاء المسؤولين، مع تعرض البعض لعواقب قانونية وإدارية باهظة.
يأتي هذا التسريب في ظل بيئة سياسية يتسم فيها الرئيس بتغيير سريع للأعصاب وتبدل مواقف الدعم تبعًا للتعرُّض للانتقادات الإعلامية والمنافسة السياسية الداخلية، كما أن تركيز الإدارة على حماية صور الرئيس وفريقه يجعلها تتجاهل تجاوزات قد تكون لها تبعات كبيرة على الأمن الوطني وعلى مستوى الثقة الدولية في قدرات الإدارة الأمريكية.
ومن الواضح أن إستراتيجية ترامب في إدارة الأزمات تتمحور حول رفض الاعتراف بالأخطاء والاعتماد على الهجوم اللفظي على الخصوم السياسيين والإعلاميين. وفي تصريحاتٍ متلاحقة، استمر وزير الدفاع بيت هيجسث في الهجوم على الصحفيين والناقدين، مؤكدًا عدم وجود نصوص سرية تكشف عن خطط حرب، مُظهرًا بذلك تقارير دعم سياسة الهجوم الشامل بدلاً من معالجة الثغرات الأمنية الحقيقية.
تتجسّد هذه المواقف في تصريحات التي حملت معها نوعاً من الاستهتار الذي قد يرجع إلى نقص الخبرة الفعلية في مجال الأمن القومي، ما يزيد من احتمالات تكرار مثل هذه التجاوزات في المستقبل.
وتلوح في الأفق أسئلة عن مستقبل العلاقات بين الإدارة الأميركية وأجهزة الاستخبارات، وعن مدى تحمل المسؤولين للمحاسبة عن أخطائهم الجسيمة. هل تستطيع الإدارة الاستجابة لتلك التحديات وتدارك مسار الأحداث قبل أن تنقلب الأمور ضدها؟ يبقى المشهد السياسي الأمريكي في حالة ترقب شديد، مع احتمالية حدوث تغييرات تؤثر في استقرار الأمن القومي وثقة الأمريكيين بقادتها.