
في مشهد سياسي متقلب، برز خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كعامل محوري غير متوقع في تغيير ملامح السياسة الإسرائيلية، فقد أشعلت خطته بالاستيلاء على قطاع غزة، والتهديدات المباشرة التي وجهها إلى حركة حماس، عبر إنذاره الأخير بإطلاق “الجحيم” إذا لم تُفرج عن الرهائن، فتّاحةً لسبيل جديدة في الخطاب السياسي داخل إسرائيل، وعلى الرغم من أن فكرة “الاستيلاء على غزة” لم تتحقق على أرض الواقع، إلا أن الرؤية المتطرفة التي طرحها ترامب لإعادة تشكيل القطاع قد أثرت بعمق في الأوساط السياسية، حيث استُخدمت تلك التصريحات لتبرير أفكار لم يكن من الممكن تصورها من قبل، معيدًا بذلك إحياء رؤى التطهير العرقي والتهجير القسري.
تأجيج التطرف
ولم يقتصر تأثير تلك التصريحات على الجانب التكتيكي في وقف إطلاق النار، بل امتد ليغير معالم النقاش السياسي في إسرائيل؛ فقد أعطت الخطابات المتطرفة دفعة قوية للفكر اليميني، مما جعل بعض التيارات تتبنى الآن سياسات كانت تُعد سابقًا منبوذة عن الخطاب العام. هذه التحولات، التي يستعرضها الكاتب في صحيفة “الجارديان” البريطانية، الكاتب يائير والاش، تكشف عن مرحلة جديدة من الانقسام الفكري داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث تتصاعد الدعوات لإعادة رسم الخريطة الديموغرافية والسياسية للمنطقة على أسس تعيد إلى الأذهان فصولاً مظلمة من التاريخ.
وطرحت إدارة ترامب رؤية لتحويل غزة من منطقة نزيف وصراعات إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وذلك عبر اقتراح إجبار 2.2 مليون فلسطيني على مغادرة القطاع وتحويله إلى مشروع تنموي أمريكي. فبجانب الإنذار القاسي الذي وجهه للرئاسة حيال حركة حماس، جاء هذا التصور الذي يجمع بين التهديد العسكري وأفكار التطهير العرقي، ليعطي دفعة قوية للتيارات اليمينية داخل إسرائيل. وعلى الرغم من اعتباره تكتيكًا تفاوضيًا، فإن الحديث عن الترحيل القسري قد فاق الحدود القانونية والدولية، إذ فتح الباب أمام مناقشات حول ما يشكل جرائم حرب وفقًا للاتفاقيّات الدولية.
تبرير التوجهات اليمينية
إن إحياء مثل هذه الأفكار التاريخية – التي تعود جذورها إلى مقترحات لجنة التقسيم البريطانية في عام 1937 وتجلياتها في أحداث النكبة عام 1948 – قد منح خطاب ترامب شرعية غير مسبوقة في النقاش السياسي. ففي حين كان الانتقاد الدولي واضحًا، استغل بعض المسؤولين الإسرائيليين هذا الخطاب لتبرير توجهاتهم اليمينية المتطرفة، مشددين على ضرورة إعادة ترتيب المشهد الديموغرافي والسياسي في غزة بما يتماشى مع رؤى أيديولوجية قديمة لكنها عادت إلى الواجهة بقوة اليوم.
وسرعان ما انتشرت الدعوات بين صفوف اليمين الإسرائيلي لدعم خطة ترامب، إذ أثار التصريح الجماهيري أصداءً إيجابية بين بعض المسؤولين والنشطاء اليمينيين، الذين وصفوا الفكرة بأنها “ثورية” وتمنحهم فرصة لإعادة رسم معالم الأمن والسيادة في المنطقة. وقد أعرب وزير المالية الإسرائيلي بيزلاليل سموتريتش عن حماسه لهذه الرؤية، مشيرًا إلى أن الدعم الدولي سيكون ركيزة أساسية لتنفيذها. كما أظهر استطلاع للرأي أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين، بلغ تأييدهم المبادئي نحو 82 %، يقبلون فكرة الترحيل كخيار بديل على الرغم من تحفظات كثيرة على آثاره الميدانية.
زعزعة الاستقرار
غير أن الارتياح الظاهري لم يخلُ من مفارقات؛ ففي ظل الإرهاق الشعبي بعد أكثر من عام من الصراع والدمار، يبقى الإسرائيليون مترددين في خوض حرب شاملة لتحقيق تلك الرؤية. وبينما يرى البعض في الخطة وسيلة لإنهاء الأزمة عن طريق إعادة تنظيم المشهد السياسي، يحذر آخرون من أن تبني مثل هذه الأفكار سيُسهم في زعزعة استقرار المنطقة بأسرها، وقد يؤدي إلى تفجير أزمة دولية لا يمكن احتواؤها بسهولة. هكذا، يصبح الخطاب المتطرف وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب معايير القانون الدولي وحقوق الإنسان.
ولا يمكن إنكار أن خطاب ترامب، على الرغم من عدم تحقيقه لإجراءات عسكرية فورية، قد غيّر بشكل جذري معالم السياسة الإسرائيلية، مُسهمًا في هيمنة الأفكار اليمينية المتطرفة على الساحة الإسرائيلية. إن إعادة إحياء مفاهيم الترحيل القسري والتطهير العرقي لم تكن مجرد تكتيك تفاوضي عابر، بل فتحت أفقًا جديدًا للنقاش السياسي حيث تتلاقى أيديولوجيات الماضي مع تحديات الحاضر. ومع تصاعد الدعوات لاستغلال الأزمة كوسيلة لإعادة ترتيب النظام السياسي في غزة، يبقى السؤال قائمًا : هل سيستطيع المجتمع الدولي احتواء هذه الخطابات المتطرفة ومنع تحولها إلى واقع يؤجج فتيل الصراع؟