في قلب الدمار، وتحت وطأة القصف المستمر، ينبثق نداءٌ عميقٌ من بين أنقاض غزة يُعبّر عن إرادةٍ لا تلين وإصرارٍ على الحياة رغم الألم، وتُعيد هذه الرواية المؤثرة إحياء ذكريات الماضي المُوجع؛ لتبرز روح المقاومة والتحدّي في مواجهة محاولات النسيان والتهميش. هنا، على أرضٍ دُمرت وتكسّرت، ينقش الفلسطينيون قصة حبٍ عميقٍ للوطن، متحدّين كل الظروف القاسية، في سردٍ لا يُخفي صدمة الحاضر ولا تطغى عليه هالة الأمل بمستقبلٍ يستعيد فيه كرامة الإنسان.
ذكريات النكبة
فمنذ طفولة سعيد سالم، الذي لم يتجاوز خمس سنوات عندما اجتاحته دموع الوداع في عام 1948، صارت ذكريات النكبة نبراساً يُضيء عتمة الحاضر. فقد كانت رحلة الفِرار من الوطن، حينما قُفل المنزل والمؤخر يحمل مفتاحه، رمزاً للألم الذي طالما ألمّ بالأجيال. تلك التجربة القاسية، التي حملت بين طياتها الخوف والمرارة، جعلت من قرار العودة رمزاً لتأكيد الهوية والمطالبة بحقوق تاريخية لا يمكن نسيانها. ولم يكن هذا الصبر مجرد تقاعس عن الرحيل، بل تحدٍ صريحٍ لواقع الألم والاغتراب، مؤكدين أن الوطن لا يُباع ولا يُستبدل.
وفي وقتٍ لاحقٍ، ومع اشتداد ويلات الحرب الجديدة التي اندلعت في أكتوبر 2023، تكررت حكاية الصمود؛ إذ رفض الفلسطينيون التراجع رغم الأوامر بالإخلاء. عاشت العائلات حكايات من الألم والمعاناة؛ حيث اختلطت دموع الوداع مع آمال العودة، ورغم القيود والحصار الداخلي الذي خيّم على شمال القطاع، وخطة الرئيس الأميركي لتهجير الفلسطينيين قسراً من غزة، إلا أن العائلات الفلسطينية تتمسك بمبدأ لا يقبل التنازل: “لن نغادر، لن نكرّر النكبة”، وفقاً لصحيفة “الجارديان” البريطانية.
واقع الحرب
تتكشف أمام أعين العالم مشاهد مأساوية لحياة معيشية تكاد تخترق حدود التحمُّل. ففي ظل حصارٍ خانقٍ وانقطاع المساعدات الأساسية، يُعاني السكان نقصاً حاداً في الغذاء والمياه النظيفة، ويتعرّض النظام الصحي لأزمات متواصلة بعد تدمير المستشفيات والمدارس. فمعزوزة أبو هندي؛ فقدت ابنها في محاولةٍ البحث عن لقمة العيش، بينما تروي قصة خالدية الشنباري؛ كيف تحوّلت غرف صفوف المدارس إلى ملاجئ باردة تنطق بألم الفقد والندم.
وهكذا، تتداخل قصص الألم مع شذرات من الأمل؛ فالعائلات التي صمدت بين الأنقاض تعد بقاؤها تحدياً صارخاً للسياسات الخارجية التي تطرح حلولاً تبدو بعيدة عن الواقع. تصريحات مثيرة للجدل من شخصيات عالمية، أبرزها إعلان دونالد ترامب؛ حول رغبة الولايات المتحدة في “امتلاك” غزة وإعادة توطين سكانها، لم تكن سوى شرارة إضافية تشتعل بداخل نفوس المتضرّرين، الذين يرون في تلك التصريحات محاولة للتجريد من هويتهم وأرضهم.
أمل البقاء
ويتجلى في عيون مَن تبقى على هذه الأرض قصة عزيمة لا تنحني لظروف الموت والمجاعة. لقد أصبح قرار البقاء في غزة بمكانة وعدٍ يخطه الفلسطينيون بأنهم لن يكرّروا تجربة النكبة مهما كانت التكاليف البشرية والمادية. ففي كل مرةٍ يُفرض فيها إخلاء إجباري، يعود أهل الشمال إلى بيوتهم المُدمّرة، مُصرّين على استعادة ما فُقد منهم من كرامة وهويتهم. هذه الإرادة القوية تُعدّ إعلاناً صريحاً بأن الشعب لن يُمحى من على وجه الأرض، مهما حاولت القوى الكبرى إعادة تشكيل الخريطة السياسية.
كما أن الواقع المُر يشهد على بروز مبادرات مجتمعية صغيرة، حيث يسعى بعض الناجين إلى زراعة الأعشاب والخضراوات وسط أنقاض منازلهم، أملاً في الحصول على قوت يومي يُخفّف من وطأة الجوع والمعاناة. وفي قلب كل هذا الألم، يبرز صوتٌ يدعو إلى الوحدة والتلاحم في مواجهة السياسات التي لا تعترف بإنسانيتهم، فتظل غزة رمزاً للمقاومة والإصرار على البقاء رغم كل الظروف القاسية.
حلم العودة
ورغم كل المحن التي ابتُلِيَت بها الحياة في غزة، فإن الإصرار على البقاء لم يفارق أبناء هذا الوطن؛ فقد شقّت طرق العودة رغم الضياع والتشتت، ليبقى الأمل مُستتراً في كل زاوية من زوايا الأنقاض. ورغم تعاظم الأزمات الإنسانية والسياسية، فإن الفلسطينيين يستمرون في سرد قصة عشقٍ طويل لا ينتهي، تلك القصة التي تجمع بين ذكريات الماضي وآمال المستقبل، معبّرين عن رغبة جامحة في استعادة الحياة الطبيعية بعد فصول طويلة من العذاب والترحيل.
ويتبادر إلى الذهن تساؤلٌ يحمل بين طياته تحدياً ومستقبلاً: هل سينجح الشعب الفلسطيني في كتابة فصلٍ جديدٍ يُعيد لأرضه عظمتها ويمنحها فرصة للنهوض من جديد؟