علينا “اجتناب تفجير السيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة داخل المدن، ولو كانت الأهداف مهمة، لأن حفظ شعبية الثورة أهم وأدوم للعمل.. وتفويت المكسب الجزئي العاجل متعين إذا أثر على مقاصد العمل، وأسس قوته، وأسباب امتداده”.
كانت هذه الوصايا -إضافةً إلى اجتناب استهداف المحايدين المدنيين من النصارى والدروز وغيرهم- هي البوصلة التي قدمها تنظيم القاعدة لعناصره عند دخولهم إلى سوريا مع بداية الثورة حتى يتحقق لهم “التمكين”.
وهي وصايا أطلقها أمير كتائب عبد الله عزام في لبنان في حينه المدعو ماجد الماجد المطلوب رقم 61 على قائمة الـ85 المطلوبين أمنيًّا التي أعلنتها المملكة، قبل أن يعتقله الجيش اللبناني، ويموت في السجن.
وهذه الوصايا التي استعان بها تنظيم القاعدة لدخول سوريا تحت اسم “جبهة النصرة” يبدو أن الحاجة لها انتهت، حسب رؤية التنظيم الآن، وأن التمكين تحقق ولا بد من مواجهة ثوار سوريا بالحديد والنار، فإما الطاعة والبيعة، أو الخطف والتعذيب والموت.
دخول “النصرة” إلى سوريا
لم يكن دخول جبهة النصرة إلى سوريا هادئًا في بداياته، بل كان على الشكل التقليدي لدخول تنظيم القاعدة لأي ساحة صراع جديدة، وذلك عبر تفجيرات ضربت دمشق، واستهدفت مناطق الجمارك، وكفر سوسة، والقصاع، والقزاز، في العاصمة السورية. لكن الغضب الذي ولدته هذه التفجيرات بين أوساط السوريين في بداية الثورة، وعدم ترحيب معارضي الأسد بها، والتبرؤ منها؛ دفع جبهة النصرة إلى اتخاذ قرار باعتماد استراتيجية قائد كتائب عبد الله عزام ماجد الماجد، فرفعت الجبهةُ شعارًا واحدًا فقط وهو نصرة الثورة السورية؛ حيث ركزوا على مواجهة قوات الأسد وفقط، وقاموا بتمثيل دور الضيف المؤدب الخلوق، مؤكدين أنهم وبمجرد انتصار الثورة سيرحلون إلى عربستان، أو بيت المقدس، وهو ما جعل كثيرًا من السوريين يرحبون بهم.
التغلغل عبر “المحاكم الشرعية”
أدى انسحاب قوات الأسد من عدة مناطق في سوريا، وغياب الدولة بمؤسساتها وأمنها، إلى حالة فوضى بدأت تضرب المناطق السورية المحررة؛ حيث كثرت الحوادث، وحالات الخطف، والاغتيالات، وكان لا بد من جهة رادعة تواجه هذه التصرفات، فكان أن ظهر فجأة ما يسمى بـ”المحاكم الشرعية”، وقامت هذه المحاكم بمحاسبة المجرمين، وإنصاف المظلومين، وفي البداية أنكرت جبهة النصرة أي صلة لها بهذه المحاكم، وأكدت دائمًا أنها مستقلة، ولا تخضع لأوامر منها، بل وعرضت الجبهة بعض عناصرها للمحاكمة أمام هذه المحاكم، مما زاد من ثقة السوريين في هذه المحاكم، وأدى إلى انتشارها كأذرع الأخطبوط في كل مدينة وقرية سورية محررة.
وبالتزامن مع انتشار المحاكم الشرعية، بدأت جبهة النصرة في تعزيز قوتها باستقطاب عناصر من الجيش السوري الحر، وشمل ذلك حتى ضم المطرودين من الجيش الحر والقتلة، ودعمت هذا الاتجاه بتقديم سلاح ومال لكل من ينضم إليها، فأصبح للجبهة عيون وآذان عبر هؤلاء العناصر في كل مكان بسوريا، وأصبح لديها أداة تحمل الصفة القانونية في المناطق المحررة، وهي المحاكم الشرعية، لتبدأ بعد ذلك تحركها ضد الثوار السوريين.
أزمة درعا
مع بدايات الشهر الحالي لاح في الأفق أمل بتوحيد قوى الثورة في جنوب سوريا عندما أعلن رئيس المجلس العسكري لمحافظة درعا العقيد أحمد النعمة عن تشكيل جبهة ثوار جنوب سوريا التي شملت أكثر من 80% من الكتائب والألوية المعارضة للأسد في حوران، وهو ما يمثل حال قيامه على الأرض وبشكل واقعي قوة ضاربة كبرى في جنوب سوريا لا يستطيع نظام الأسد أو جبهة النصرة مواجهتها، وهو ما أقلق فرع القاعدة في بلاد الشام، خاصة بعد تصريح لأحمد النعمة قال فيه إنه لن يسمح بوجود “المتشددين قاطعي الرؤوس”، لذا وعلى الفور قامت جبهة النصرة بنشر بيانات ضد النعمة في كامل درعا، مؤكدةً أنه مطلوب للمثول أمام المحكمة الشرعية في بلدة الجيزة شرق درعا منذ فبراير 2013 بتهمة خيانة الشعب السوري والجيش الحر، محذرة كل من ينضم له، أو يتستر عليه، ليتم القبض على النعمة مع مجموعة من قادة الكتائب الذين تم الإفراج عنهم باستثناء النعمة وقائدين آخرين حيث تعرض الثلاثة لتعذيب شديد.
قياس القوة.. والانقلاب على الثورة
مثلت الأيام التي تلت اعتقال النعمة فترة حاسمة لجبهة النصرة كي تقيس قوتها وتأثيرها في درعا، وكان كل يوم يمر يزيد الجبهة وعناصرها غرورًا وثقة، لتقوم منذ يومين باعتقال قائد لواء شهداء اليرموك محمد البريدي، ثم ليخرج بعد ذلك تسريب صادم مما يسمى المكتب السري للمحكمة الشرعية، حمل قائمة جديدة من المطلوبين للمحكمة الشرعية تشمل قادة الجيش السوري الحر في تركيا، وأعضاء في الائتلاف الوطني السوري، متهمة إياهم بإعلان “الحرب على الله وأوليائه”، وضمت من بين الأسماء العميد سليم إدريس، ولؤي المقداد، وزهران علوش، وسهير الأتاسي.
وبدت جبهة النصرة وكأنها قررت محاكمة الثورة السورية بكاملها، وانقلبت عليها تمامًا، بعد أن ضمنت موطئ قدم وأتباعًا في بلاد الشام، بما يسمح لها بالتحرك بشكل مستقل عن الجيش السوري الحر.
ومع هذه الخطوات والبيانات والاعتقالات اكتملت حلقات تحول تنظيم القاعدة في سوريا، فمن الانطلاق بشكل القاعدة التقليدي (التفجيرات الانتحارية) إلى اعتماد تغيير في الاستراتيجية لضمان الشعبية، ثم إلى مواجهة معلنة مع المجتمع، واستهداف للقادة، وخطف، وتعذيب، ثم تكفير للجميع بتهمة أنهم يحاربون الله، لنكون أمام الصورة التقليدية للقاعدة التي شهدناها قبلا في أفغانستان والعراق، والتي كانت في الحالتين وبالا على أهل البلاد.. فهل يلقى أهل الشام نفس المصير؟.