لن تمر الزيارة التي يقوم بها حالياً صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، إلى الصين، دون أن تُحدث “ربكةً” في وكالات الاستخبارات العالمية، وتستنفر الأقمار الصناعية المسلطة على بكين من السماء، وتُجبر الجواسيس الذين يعملون لمصلحة إيران و”الموساد” و”سي آي أيه” في تلك المدينة، على الركض ليلاً ونهاراً لجمع ما يمكن جمعه من معلوماتٍ عن تحركات ذلك المسؤول السعودي الكبير، فقد تعلّموا من درس صواريخ “رياح الشرق”، أنه لا يمكن التنبؤ متى وأين “ستضرب” السعودية مجدّداً، وما الهدف المقبل الذي يخطط له مسؤولو الاستخبارات بالرياض؟
ولم يكن فشل “جيوش” الاستخبارات في رصد الصفقة التي بدأ أول خيوطها عام 1986، بالأمر الهيّن عليهم؛ لأن تلك الصواريخ غيّرت ميزان القوى بالشرق الأوسط وجعلت تل أبيب وطهران داخل دائرة قطرها آلاف الكيلو مترات يمكن للسعودية استهدافها، وعند اكتشافها بعد أعوام، كانت الصواريخ التي يُقال إن عددها يراوح بين 50 و60 “منصوبةً” وجاهزةً في مواقعها الموزعة على رقعةْ واسعة من خريطة السعودية، بحيث أصبح من المستحيل تدميرها بهجومٍ واحد.
ذلك السلاح الرادع جعل إسرائيل تهدّد بقصف المملكة، غير أن الرسائل الحادة التي وصلت إلى تل أبيب من المسؤولين السعوديين بأنه سيتم الرد على أيِّ عملٍ عدواني، جعلها تفكر أكثر من مرة قبل القيام بأيِّ عملٍ متهورٍ، وانتهى التوتر الذي كاد يصل إلى مواجهةٍ عسكريةٍ بعد أيامٍ عدة.
تفاصيل تلك الصفقة لا تزال من أهم الأسرار العسكرية في التاريخ الحديث، ونجاح سيسجّله التاريخ للسياسيين السعوديين، وكذلك للعسكريين وضباط الاستخبارات، وكل مَن شارك فيها.
ويروي الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز في كتابه “مقاتل من الصحراء” بعضاً من أسرار القصة، مؤكداً في البداية أنها كانت فكرة الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – حيث رأى أنه يجب على السعودية أن تقتني سلاحاً يردع أعداءها، فأرسل الأمير بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات العامة، إلى الصين (وقتها كان سفيراً للمملكة في الولايات المتحدة)، ووصل إلى بكين وهو متوجسٌ من عدم الموافقة على طلبه؛ لعدم وجود علاقاتٍ دبلوماسيةٍ بين البلدين في ذلك الوقت، غير أن هذا ربما كان السبب في اختيار الملك فهد للصين، حيث لا يمكن أن يشك أحدٌ في إتمام صفقةٍ بهذا الحجم بين بلديْن لا تربطهما أيُّ علاقات.
وحمل الأمير بندر رسالةً من الملك فهد إلى المسؤولين ببكين حول إمكانية تزويد المملكة بصواريخ “رياح الشرق”، فردّوا عليه بعد فترةٍ وجيزةٍ بأنه لا تُوجد موانع من حيث المبدأ.
وأرسل الصينيون بعد الاتصالات الأولية مسؤولاً عسكرياً كبيراً يحمل رتبة لواء إلى المملكة ومعه وفدٌ عسكري، وتمّ الترتيب لكي يصلوا إلى إحدى القواعد العسكرية، ويتم الاجتماع بهم ليلاً، وبعد فترةٍ من اللقاءات تلقى الأمير خالد بن سلطان أوامر من الأمير سلطان بن عبد العزيز – رحمه الله – بتولي ملف تلك الصفقة بناءً على رغبة الملك فهد، ومنذ تلك اللحظة أصبح الأمير خالد بن سلطان، بطلاً للقصة ومعه ضباط عدة اختارهم بعناية.
وبدأ الفريق رحلةً من العمل السري المنهك استمرت شهوراً عدة وكاد بعضهم أن يفقد زوجاته اللاتي اعتقدن أن ذلك الغياب الطويل سببه الزواج من أخرى، غير أن أولئك الضباط كانوا مستعدين للتضحية بأي شيء من أجل الوطن، وأولها أرواحهم.
وذكر الأمير خالد بن سلطان، في كتابه، أن زوجته، وهي ابنة عمه الأمير تركي بن عبد العزيز، لم تعلم عن أمر الصواريخ، وأنه مكلفٌ بها إلا بعد فترةٍ طويلة، عندما سألها الأمير سلمان: “كيف حال أبو الصواريخ؟”.
واضطر الأمير خالد بن سلطان، إلى السفر سراً مرات عدة إلى بكين، وكان أحيانا يضطر لأن يقرأ الوثائق السرية تحت بطانية سريره فربما كانت هناك كاميرات ترصده، أما مكالماته المهمة إلى السعودية فكان يجريها من غرف فنادق يستأجرها لساعات ثم يغادرها فوراً، ويستخدم في محادثاته رموزاً سرية.
وفي أثناء نقل الصواريخ بحراً، كانت القوات السعودية جاهزةً لحمايتها من أيِّ هجومٍ طوال خط سيرها، وبالتزامن مع ذلك، كان العمل يجري على قدمٍ وساق لتجهيز الموانئ التي ستستقبلها، ومنصّات الإطلاق ومواقع التخزين المتفرقة، ويقوم على ذلك ضباط وأفراد سعوديون، وبمشاركةٍ من الصينيين.
ولم تنحصر الفائدة من تلك الصفقة في مجال الحماية فقط، وامتلاك قوة ردعٍ مدمّرة، بل كانت اللبنة الأولى لعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ وعسكريةٍ جعلت الأمير سلمان، يقول خلال زيارته الحالية لبكين: إن ذلك التعاون يتحوّل إلى “شراكة إستراتيجية”، وهو تصريحٌ ستكون له أصداءٌ في “واشنطن”.