صحيفة “الاقتصادية” في افتتاحيتها بعنوان ( حل متأخر .. الفاتورة ثقيلة ) : انتظرت القارة الأوروبية بقلق وتوتر قرار البنك المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة لكبح جماح معدلات التضخم المرتفع الذي هز أركان الأسواق العالمية، ورفع أسعار السلع الأساسية، ما تسبب في ارتفاع فاتورة المستهلكين. ويواجه الاقتصاد الأوروبي الذي يمثل نحو خمس الناتج الإجمالي العالمي أصعب اختبار له منذ اندلاع وباء كورونا قبل أكثر من عامين، وهناك مجموعة من المخاطر تهدد أيضا بإرجاع النمو إلى الاتجاه المعاكس، ما يشير إلى عدم اليقين العميق بالمستقبل, وفيما يتعلق بأزمات الأسعار فقد قفز معدل التضخم السنوي في الاتحاد الأوروبي إلى 9.6 في المائة خلال حزيران (يونيو) الماضي، وبلغ 8.6 في المائة، وللحد من ارتفاع الأسعار، فإن البنك المركزي الأوروبي يواجه معركة شاقة للسيطرة على الوضع.
وأضافت : بالكاد استطاع البنك المركزي الأوروبي اتخاذ قرار برفع سعر الفائدة، وذلك لأول مرة منذ 11 عاما، حيث تم رفع معدل الفائدة الرئيسة بنصف نقطة، وبهذا القرار تخرج الفائدة من المنطقة السلبية للمرة الأولى منذ ثمانية أعوام، وترتفع الفائدة على عمليات إعادة التمويل الرئيسة إلى 0.50 في المائة، وعلى تكلفة الإقراض الهامشية إلى 0.75 في المائة، ولن يقف الأمر عند ذلك، بل إن البنك الأوروبي قد يرفع الفائدة في المستقبل تبعا للمعطيات، وذلك وفق تصريحات مسؤوليه، لكن السؤال الأهم ليس لماذا رفع البنك سعر الفائدة، بل لماذا تأخر في ذلك؟
وزادت : المعطيات الاقتصادية كلها تشير إلى ضرورة رفع سعر الفائدة، حيث راهنت الأسواق المالية على ذلك، وتسبب تأخر القرار في انهيار سعر صرف اليورو مقابل الدولار حتى وصل إلى مستويات قياسية لم يبلغها منذ عقود. كما أن تداعيات الحرب في أوكرانيا وارتفاع التضخم ترخيان بظلال قاتمة على الآفاق الاقتصادية في منطقة اليورو، والتضخم في تلك المنطقة لا يزال مرتفعا بشكل غير مرغوب فيه، ومن المتوقع أن يستمر لوقت ليس قصيرا , وكما هو مرجح، فقد ألقى معظم الأطراف الأوروبية باللائمة على الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع ذلك فإن الجميع يتفهم هذه التصريحات، لكن هذه التداعيات معروفة منذ اندلاع الحرب قبل عدة أشهر من اليوم، والتضخم ضرب بأطنابه في العالم أجمع وفي أوروبا خاصة، واستجابت الفائدة الأمريكية بسرعة وقوة لهذه التطورات، ومع ذلك وقف البنك الأوروبي يرقب المشهد العالمي دون حراك حتى نهاية الأسبوع الماضي، فما الأسباب وراء ذلك؟
واعتبرت: أن المشكلة الأوروبية لم تزل قائمة منذ الأزمة المالية التي عصفت بعدد من الدول ضمن الاتحاد، من بينها اليونان وإيطاليا، والبرتغال، واستطاع البنك المركزي بعد صراع طويل الوصول إلى اتفاق بشأن تقديم تسهيلات وتيسير كمي كبير وتخفيض سعر الفائدة للمستوى السلبي، من أجل منح اقتصاد هذه الدول فرصة للإصلاح والعودة إلى النمو, ونجحت هذه المحاولات حتى رغم التباطؤ الاقتصادي الذي تسببت فيه كورونا، خاصة أن هذه الدول تعتمد على السياحة بشكل أساسي، حيث تعرض هذا القطاع لصدمة قوية، نظرا إلى مستويات الحجر وتعطيل السفر الدولي , ومع تباشير عودة الأمور إلى نصابها، يواجه العالم شبح التضخم غير المنضبط، ورفع سعر الفائدة الذي قد يعوق الطلب القوي على خدمات السفر والسياحة، لكن الأسوأ الذي يواجه هذه الدول الأوروبية ليس شبح تراجع الطلب، بل ارتفاع تكلفة خدمات الدين المثقلة به تماما منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي جعل البنك المركزي الأوروبي يتأنى في رفع سعر الفائدة قبل الوصول إلى اتفاق بشأن السندات وعمليات تداولها في الأسواق الأوروبية، فإذا تم رفع سعر الفائدة قبل الوصول إلى اتفاق واضح بشأن هذه المسألة، فإن الدول المثقلة بالديون مثل إيطاليا، واليونان، قد تواجه أزمة أشد من تلك التي واجهتها في الأزمة المالية، ومع التضخم قد تصبح أزمة سياسية شديدة التعقيد، واضطرابات تعوق العمل وترفع تكلفة الإصلاح, ورفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة سيرفع تكاليف الاقتراض على أطراف الكتلة بشكل غير متناسب، ما يعني أن دولا مثل إيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، ستضطر إلى رفع العوائد على السندات للمحافظة على المستثمرين، وذلك أكثر من الأعضاء الآخرين مثل ألمانيا، وفرنسا، ولهذا تزامن إعلان رفع سعر الفائدة مع إعلان المركزي الأوروبي أداة جديدة مخصصة للأزمات، تهدف إلى ضبط تكاليف الإقراض على الحكومات المثقلة بالديون في منطقة اليورو، مثل إيطاليا.
وأوضحت : أن التحدي الذي يواجه البنك المركزي الأوروبي ليس التضخم فقط كما تواجهه الولايات المتحدة، فالحرب الروسية – الأوكرانية تقع على حدود الاتحاد الأوروبي، ووحده الذي يعاني أزمة الطاقة، ومعالجة التضخم فقط برفع سعر الفائدة قد يجر اقتصادات الدول المثقلة بالديون إلى الانهيار، فالأداة الاقتصادية الجديدة التي أطلق عليها أداة “حماية تعميم السياسات”، والبعض يسميها “أداة مكافحة التجزئة”، تهدف إلى الحد من الاختلاف في تكاليف الاقتراض بين أقوى دول الاتحاد وأضعفها، فكما سجلت تقارير اقتصادية بأن الفجوة بين عائدات السندات القياسية الإيطالية، والألمانية، لأجل عشرة أعوام اتسعت بشكل يشير إلى أن المستثمرين يطالبون بعلاوة أعلى للاحتفاظ بالديون ذات المخاطر العالية في منطقة اليورو.
وختمت : من اللافت للنظر أن الاقتصاد العالمي يواجه اليوم قضايا مختلفة، تتباين فيها المشكلات، فالقضايا التي تواجه الاتحاد الأوروبي ليس كلها متماثلة، فألمانيا تعاني بوضوح نقصا في إمدادات الطاقة جنبا إلى جنب مع مشكلات سلاسل التوريد، إضافة إلى التضخم، ورفع سعر الفائدة لن يكون حلا كافيا. أما اليونان وإيطاليا، فإن رفع سعر الفائدة يعد عقوبة اقتصادية لهما، فهما مثقلتان بالديون، كما أن رفع أسعار الفائدة سيعرض الطلب على السياحة إلى التراجع، وبالتالي فإن الكتلة الأوروبية تواجه مواقف متباينة أثرت بوضوح في توقيت القرار برفع سعر الفائدة، كما أن ذلك سيؤثر في أي قرار في المستقبل.