ليال طوال ما بين السير على الأقدام المحفوف بالمشاق والمآزق والعطش والفقدان والموت شاهدة على رحلات الحجاج قديمًا من جنوب السعودية ؛ حيث قوافل الحجاج تسلك الطرق الوعرة على الأقدام في حقب زمنية محددة لن تكون إلا في مطلع السبعينيات وما قبلها.
كانت هذه الرحلات يسبقها وداع حار قد تتلمس درجته عندما تصغي لشيخ على مشارف التسعين وهو يروي تلك اللحظات وبساطتها وستلمس حينها حجم التطور السريع والهائل الذي شهدته المملكة العربية السعودية خلال العقود الماضية وهو الذي أنهى معاناة السنين ولكنه لم يتمكن من محو هذه الذكريات التي يعدها كبار السن من أجمل أيام العمر حتى عندما يتحدثون عن الجوع والعطش والسيول التي تحتجزهم لأيام , وعندما يتحدثون عن وادي حلي الكبير تحديدًا .. القصة تلقتها “سبق” من لسان من عايشوها ومن القريبين من تلك الحقب الزمنية الثرية.
ومن مشارف التسعين يروي الشيخ قاسم الزيلعي وهو كاتب عدل سابق في محكمة بيش بمنطقة جازان وعضو مجلس المنطقة , قصة رحلات الحج القديمة في ذلك الزمن ساردًا الذكريات التي يصف كثيرا منها بالجميلة عدا قصة حلم والدته الذي كاد يفقدها عقلها وهم في حوض شاحنة في عام 1374.
يقول أيضًا عن رحلات الحج في الخمسينات من العمر: “قبل الحج يصنع الأهالي للحجاج البر والذي يحفظ لفترة تكفي مسافة الطريق التي تستغرق مسيرة شهر تقريبًا على ظهور الجمال وسيرا على الأقدام , ومن ثم عند رحيلهم تبدأ طقوس الوداع , التي يرافق فيها الأهالي حجاجهم إلى مسافات بعيدة جدا تصل لنحو 50 كلم على الأقل ويساندونهم بالمال والأكل والدعاء. ويضيف: “عندما تبدأ الرحلة الحقيقية يسيرون يوما ويرتاحون يوما ويتركون الدواب في المراعي حتى تتمكن من الذهاب بهم والعودة وهي بكامل طاقتها , مشيرًا إلى أنه في تلك الحقبة لا وجود للاسفلت والطرقات المعبدة أو حتى الأمان , وكانت رحلة الحج على الجمال من أخطر الرحلات لكنهم يعشقون السفر، حسب وصفه , مستذكرا قصة وفاة شيخ بلدتهم في تلك الفترة أثناء عودته من الحج ودفن في كياد التي تقع على الطريق الساحلي بين جدة وجازان بعد معاناة السفر الطويل.
ويضيف: “في عام 1374 توجهت للحج مع والدتي وجمع من أهل البلدة على شاحنة قديمة كانت الرحلة أقل مشقة بالطبع من رحلة الأولين على الجمال ، وحيث أن رحلة الحج في ظهر الشاحنة كانت تستغرق من بيش إلى جدة ثلاثة أيام على الأقل فالطريق الساحلي في تلك الفترة لم يكن موجودًا وعند ذلك التاريخ صادفنا جريان وادي حلي أحد أكبر الأودية في المملكة والذي قطع طريقنا لأيام بسبب عدم وجود الجسور أو غيرها , وفي ذلك اليوم حلمت أمي بحلم أخافها على أخي وكادت تجن علينا في الطريق فما كانت الاتصالات متوفرة ، وكنا نستعين على تهدئتها بقراءة القرآن حتى مضت الأيام ووصلنا جدة قبل الحج بعشرة أيام , وكنا في حينها نذهب للحرم المكي نطوف ونصلي ونعود للجلوس في المسفلة في بيوت قديمة حتى يقترب يوم التروية ونذهب لغرف المياه من خزانات في المشاعر المقدسة ونبدأ في الحج حتى لا يعود كثير من الناس إلى ديارهم حتى بعد أيام طويلة من انقضاء الحج”.
وتابع: “عند رحلة العودة , تكون النفوس مشتاقة للأهل والمكان , ويكون الأهل والجيران أيضًا يتشوقون لرؤيتنا سالمين بعد الرحلة الشاقة , فكانت طقوس الاستقبال تعبر عن حرارة الشوق ؛ حيث ينطلق الأهالي كتحبيل القعادة “الكرسي المصنوع من الخشب وأوراق الطفي بمسماها الشعبي , وينشدون للمحبل صانع الحبال من الشجر الذي يلفها على الكرسي الخشبي , بقوله : “يا محبل حث ساقك.. لا تقيّل في حلي” , حيث كانت هذه الأهزوجة تردد عند ذهاب المبشر ومعه المحبل وجمع من الناس من بيش إلى حلي لاستقبال الحجاج والاطمئنان عليهم وهي مسافة تزيد عن مائتي كلم ثم يهرول قبلهم لتبشير الناس في بلدتهم آخذا معه دليلاً ماديًا.
وأوضح: “حججت خلال سنوات متفاوتة من الزمن نحو 45 حجة وكانت إحداها في أول طائرة تقلنا من جازان لجدة لأداء فريضة الحج وهي داكوتا طائرة الملك عبد العزيز كما يسميها في الثمانينات الهجرية” , يقول: “كانت التطورات متسارعة جداً وكان عدد الحجاج يتزايد مع كل عام وكان التطور هو الشاهد على ما يقدمه حكام هذه البلاد من خدمة جليلة للحرمين الشريفين ووطنهم وكذلك رعايتهم للإسلام والمسلمين”.
ويقول المواطن مريع محمد وهو من معاصري الحجاج على الشاحنات وقد حج 10 مرات لـ”سبق” عن طقوس استقبال الحجاج: “يكلف بعض الأهلي شخصاً يسمى المبشر، تكون وظيفته الذهاب لاستقبال الحجاج، لمسافة بعيدة؛ حيث كان المبشرون في بعض قرى مخلاف صبيا، يتوجهون نحو نقطة الالتقاء بالحجاج التي يعهدها المبشرون في الشقيق بمحافظة الدرب حالياً، ويستقبلون الحجاج ويطمئنون عليهم، ثم يسبقونهم للقرى من أجل تبشير ذويهم بعودتهم، بعضهم يعطيه سجادة والبعض منديلاً والبعض نظارة، والبعض ساعة ومسابح وأي شيء يخص الحاج، وعندما يصل حامل البشارة يخبر الجميع بالوصول وكل بيت تحضر منه النساء ومعهن الأعلام والرشوش، ويبقى أهالي المتأخرين على جمر الحيرة يترقبون نبأ العودة”.
وبين: “كانت النساء يمارسن النشيد الذي يسمى نشيد التعجل، وعادة تسمى “تحبيل القعادة” في يوم مخصص لها، حيث تخصص القعادة “كرسياً يجلس عليه الحاج عند وصوله لمسكنه”، ويرددن أهزوجة خاصة بحسب ما تواتر عنهن، تقول الأهزوجة:
يوم تحبيل القعادة
كانت أيام السعادة
والجميع في سرور
وفي يوم الوصول إلى المنزل تحضر المنشدات وينشدن في البيت ليومين أو ثلاثة من العصر وحتى المساء احتفاء بعودة الحاج، كما جرت العادة في القرن قبل الماضي، وفي بعض المحافظات ليوم واحد فقط.
واستطرد: “تغيب تفسيرات الأهزوجة الشهيرة “روحنا من أمسعدية..لا بندق ولا جنبية” عن الكثير هذا العصر، في الوقت الذي تشير فيه الأهزوجة إلى عدم القتال في الحج وأنه موسم للسلام، كما يفسره كبار السن .
ومن جهتهم، أكد علي محسن ومحمد أبو طالب ، أن الحج أصبح ميسرا لدرجة كبيرة ، فالحياة في مكة لم تعد بالشقاء الكبير الذي عانى منه الحجاج في عصور سابقة كما كنا نسمع ، بل أن الاهتمام بالحجاج بلغ مبلغًا لا تصله كل الدول .
وفي الختام فكل شيء حول مكة والمدينة والمشاعر المقدسة فيه من الدلائل على الجهود العظيمة المبذولة من قبل حكام المملكة العربية السعودية , والشواهد بالطبع تتحدث عن تنمية وعطاء وبذل جهود لا محدودة , بدأها المؤسس وواكب أبناؤه البررة كل التطورات والثورة الصناعية من أجل تحقيق الرخاء لزوار الحرمين الشريفين وكذلك للمواطنين في عموم أرجاء البلاد .