قليلة هي الدراسات العلمية التاريخية التي ارتبطت بموضوع الحصون والقلاع في تاريخ الحضارة الإنسانية، بشكل علمي ومنهجي، ولا زالت مكتبة التاريخ العربي الإسلامي تفتقر إلى مثل هذا النوع من الدراسات، وقد يجد الباحث في المكتبة التاريخية دراسات عن القلاع والحصون في محتوى دراسات معنية بموضوع العمارة العسكرية لدى الأمم والشعوب، بوصف ذلك وجهًا من وجوه الحضارة الإنسانية، وقد تكون دراسة المؤرخ الألماني (فولفغانغ مولر فيز) في موضوع (القلاع أيام الحروب الصليبية)؛ من أفضل الدراسات العلمية في هذا الجانب، فقد تناول في دراسته هذه عددًا من القلاع التي ارتبطت تاريخيًا بفترة الحروب الصليبية. ومن هذا القبيل كذلك فإن هناك دراسات تاريخية، ارتبطت تاريخيًا في الحديث بموضوعها عن طائفة الحشاشين الإسماعيلية، وتاريخ نشأتها، ولكون هذه الطائفة ارتبطت في أصول نشأتها بالقلاع والحصون الخاصة بها بشكل مباشر؛ فمن خلال الحديث عن هذه الطائفة، تم الحديث عن القلاع وأهميتها في نشأة هذه الطائفة، وقد أسماها – أي: الطائفة – القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) بـ(دولة القلاع)؛ لأهمية القلاع في تاريخ هذه الطائفة ونشأتها.
فتلك هي الحصون والقلاع في ذاكرة التاريخ الإنساني، أما في الإسلامي فهي تمثل العمارة العسكرية التي عرفها التاريخ الإسلامي، وهي واحدة من ثلاثة أنظمة عمرانية تفخر فيها الحضارة الإسلامية، الدينية ممثلة في المساجد وما رافقها والمدنية في المساكن والبيوت والعسكرية التي نحن بصدد الحديث عنها.
الحصون والقلاع والإنسان:
هي حكاية ذاكرة التاريخ في صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، في مسألة من أهم المسائل المعنية في حياته، وهي ديمومة الوجود، فجاءت قصة بناء الحصون والقلاع على يد الإنسان شاهدًا أمثل على قصة هذا الصراع الوجودي بين بني الإنسان، فبدأت حكاية بناء الحصون لتأمين أهم ضرورة من ضروريات حياته على هذه الأرض، وهي الأمن والأمان، لينعم في ظلها بنعمة الاستقرار والرخاء. وقد بدأت علميات البناء هذه، مع بدايات تحضره واستقراره على الأرض التي استوطنها، وقد عرفت الحضارات الإنسانية القديمة الحصون والقلاع، وهناك العديد من الآثار والأوابد الدالة على ذلك العطاء الإنساني، فقد عرفها العرب فيما قبل الإسلام كما عرفها غيرهم من الأمم القديمة، لكن زاد الاهتمام بالحصون والقلاع في فترة العصور الوسطى، وخاصة ما كان منها في مثلث العالم القديم، وهو المعروف اصطلاحًا بـ(الشرق الأدنى) الذي هو اليوم الشرق الأوسط، وخاصة ما كان منها في بلاد الشام وإيران، وقد كان بناء الحصون والقلاع على نمطين زمانًا ومكانًا، فالنمط الأول: هو ما كان دفاعيًا وهجوميًا سواء منه الإسلامي، أو غير الإسلامي. أما النمط الثاني: فقد كان في أصول نشأته دفاعيًا لتحقيق الأمن لساكنيه، وهذا النمط يعود إلى طائفة الحشاشين الإسماعيلية، فقد كانت جميع قلاعها دفاعية وأمنية، وقد انتشرت من إيران إلى بلاد الشام، حتى عرفت دولة هذه الطائفة بـ(دولة القلاع) كما سماها القلقشندي.
الحصن والقلعة لغة واصطلاحًا:
عرَّف ابن منظور في كتابه لسان العرب القلعة بأنها: الحصن الممتنع في جبل، جمعها قِلاعٌ وقِلَعٌ وقَلُوعٌ؛ والقلْعة بسكون اللام هي الحصن المشرف، وقد جاء تعريفها في الموسوعة العربية العالمية بأنها: (حصن منيع يشيد في موقع يصعب الوصول إليه، وغالبًا ما يكون مشيدًا على قمة جبل أو مشرفًا على بحر، وقد وجد بعضها قائمًا على أرض منبسطة، وكانت القلاع والحصون عند العرب وغيرهم تؤدي دور البيت، بما تحتوي عليه من غذاء وماء ومستلزمات العيش والدفاع لساكنيها) وفي الموسوعة الإسلامية جاء تعريف القلعة بأنها: الحصن، وهي مشتقة من الكلمة الإسبانية التي أخذها الإسبان من المسلمين، عندما أطلقوا على شبه الجزيرة الأيبرية، التي تضم البرتغال وإسبانيا اسم (القلاع)، فالكلمة الإسبانية Al Cal,a هي في أصلها لفظة عربية، وهنا فالدلالة اللفظية للحصن والقلعة واحدة، ولا يختلف كلاهما عن الغرض الذي من أجله تم بناء القلعة. والقلاع في نظام البناء على ثلاثة أنواع، إما أن تكون على جبل أو هضبة، أو مخندقة وحولها ماء، أو ما يجمع بين الخندقة والارتفاع، مثل قلعة حلب التي كان يحيط بها نهر قويق
لكن أستاذة التاريخ والحضارة الإسلامية الدكتورة سعاد ماهر ترى غير ذلك في كتابها النفيس (فن العمارة الإسلامية على مر العصور)، فقد أشارت إلى الخلط اللفظي والاصطلاحي، الذي وقعت فيه المعاجم العربية في قديمها وحديثها، حول مسألة تعريف كل من الحصن والقلعة، وأن هذا الخلط قد وقعت فيه دوائر المعارف الأوروبية، عندما استعانت بالمعاجم العربية والإسلامية في التعريف الاصطلاحي لكل من الحصن والقلعة، فقد عرفت كلا الاسمين بما يلي:
الحصن: هو أكبر عمائر الاستحكامات الحربية، وهو كل بناء يحيط بمساحة من الأرض ليحميها ويحصنها، ضد أي اعتداء من داخل البلاد أو من خارجها، ومن ثم فإن أسوار المدن كانت تعرف في العصور الوسطى باسم (الحصون)، مثل: أسوار بغداد والقيروان والمدينة المنورة ودمشق، والدرعية وغيرها من المدن، وإلى اليوم، فإن الكثير من المدن تحتفظ بأسوارها مثل دمشق والمدن العثمانية والعمانية، والأسوار التي تتحصن المدن بها تتميز عن غيرها بعلوّها ومتانتها، وذلك بهدف الغرض من بنائها. وقد حدثنا القرآن الكريم في سورة الحشر عن خروج بني النضير من ديارهم في المدينة، ثم من حصونهم في خيبر، قال تعالى: ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ [الحشر: 2].
فمن حصونهم خرجوا إلى الشام، ولهذا فكل حصن يكون حصنًا وقلعة وليس العكس.
القلعة: هي استحكام حربي يبني في منطقة إستراتيجية كالجبل والتل أو الروابي الصخرية أو على سواحل البحار، فهي قاصرة على المراقبة والدفاع ضد أي عدوان خارجي، فمكوناتها هي مكونات الحصن في البناء، وكلا البناءين يخدمان الغرض في مسألة الدفاع وصد أي هجوم خارجي، والقلعة بوصفها بناء حربيًا فإن كل ساكنيها عسكريون، بخلاف الحصن الذي يجلس فيه الحاكم ومن معه من رعيته، ليتحول إلى مدينة صغيرة فيها المسجد وقصر الحكم وغير ذلك من المرافق الخدمية.
كان هذا ما ذهبت إليه الدكتورة سعاد ماهر، في بيان الفرق بين الحصن والقلعة، في الدلالة الاصطلاحية والغرضية لكل منهما، في دورهما المباشر في الأعمال الحربية والعسكرية.
وبعد التعريف هذا؛ فإن الغرض الحربي والعسكري لكليهما هو واحد يتمثل في تحقيق الأهداف التي تم البناء من أجلها.
القلعة وأبنيتها المساندة:
المزاغل: فتحات في جدران القلعة لرمي القاذورات والأوساخ.
الساقطات: شرفات تبرز متقدمة في وجه الجدران في الأسوار حصونًا كانت أو قلاعًا ومنها ترمى السهام والنيران وكذلك يصب الزيت الحار على المهاجمين.
المقرنصات: فن عربي في بناء الأقواس والزوايا في القلاع والمباني.
المتراس: وسيلة دفاعية يقف خلفها المدافعون عن القلعة أو الحصن.
البربقان: عبارة عن برج كبير، يبنى على مسافة قريبة من الحصن أو القلعة، وبينه وبين الحصن قنطرة أو جسر يوصله في القلعة، وهو وسيلة من وسائل الدفاع عن القلعة.
المشربيات: شرفات خشبية بارزة على جدار البناء تلعب دور النافذة من الطوابق العليا.
الباشورة: عبارة عن مداخل متعرجة، تنعطف يمنة ويسرة عند مدخل القلعة.
النظام الإداري في الحصن أو القلعة:
تخضع الحصون والقلاع في كل المجتمعات أو الأمم إلى أنظمة إدارية تُحكم فيها القلعة أو الحصن، وقد عَرَفَ المسلمون مثل هذه الأنظمة، فأقاموها على حصونهم وفي قلاعهم، وقد جاء السُّلّم الإداري في القلعة الإسلامية على الشكل التالي:
حاكم القلعة: كان يُسمى دزدارًا، وهو حافظ القلعة وصاحبها، ويقوم على مساعدته عدد من العسكريين والإداريين.
نيابة القلعة: هي نيابة منفردة عن نيابة السلطة، وتتم ولايتها بموجب أمر سلطاني من ديوان الإنشا الشريف، ونائب القلعة هو المتحدث عنها، وهو الذي يفتح بابها للسلطان، ومن مهماته تعيين قارع الطبل فيها، وضارب الطبل هنا في مهمته في القلعة كضارب بوق صافرة الإنذار اليوم.
ولاة القلعة:
وهما اثنان؛ الأول: والي القلعة المتحدث على باب القلعة، وعليه فتح بابها وإغلاقه، وتحت إمرته عدد من الأفراد.
الثاني: والي باب القلعة وهو يتبع الأول ويعمل بإمرته، ومعه من الأعوان عشرة جنود.
نقيب القلعة: هذه الوظيفة والمهمة خاصة بالعسكر، وغالبًا ما ينوب النقيب عن والي القلعة.
أمين القلعة: مهمته الكشف على القلاع، وتفقد أحوالها وما تحتاج إليه.
وكيل القلعة: هو الذي ينوب عن والي القلعة ببعض الأعمال التي يكلفه فيها الوالي.
ناظر العمائر: وهو صاحب الإشراف على أعمال البناء والمهندسين، وغالبًا ما يكون هو نفسه مهندسًا.
الحصون والقلاع في عصر الحروب الصليبية:
وصل الصليبيون إلى الشرق الإسلامي فوجدوا فيه ثراء هذا الشرق بالفنون المعمارية العسكرية؛ كالحصون والقلاع والأبراج الحربية، وقد كان لمنعة حصن أنطاكية دور في تعطيل الحملة الصليبية الأولى مدة سنة تقريبًا، وكان حاكم الحصن (باغيسيان السلجوقي)، ولولا خيانة (فيروز الأرمني) أحد حراس الأبراج الذي تواصل مع القائد الصليبي (بوهيمند) الذي رشاه كي يفتح له باب الحصن، وبسقوط حصن أنطاكية أصبحت الشام مفتوحة أمام الحملة الصليبية الأولى، والمؤرخة بسنة 491هـ/ 1098م، فكان غزو أنطاكية من الأسباب المباشرة في نجاح الحملة الصليبية الأولى، وما تلاها من حملات صليبية، وإضافة إلى ذلك فقد تواصل الفاطميون في مصر مع الصليبيين ضد السلاجقة، ظنًا منهم أن الصليبيين سيمكنونهم من استلام بيت المقدس، لكن الصليبيين رفضوا طلب الخليفة الفاطمي -المستعلي بالله-، وبعد فتح بيت المقدس زاد اهتمام الصليبيين بالحصون والقلاع، فبنوا لأنفسهم.
حصونًا وقلاعًا جديدة، إضافة إلى ما استطاعوا وضع اليد عليه واحتلاله من يد المسلمين.
فهذه الفترة من أهم فترات التاريخ في انتشار بناء الحصون والقلاع، من الشرق الإسلامي وحتى دول أوروبا، ولذلك اهتم الباحثون والمؤرخون بتلك الحصون والقلاع في دراساتهم التاريخية المعنية في جوانبها العسكرية والحضارية، من خلال تاريخ هذه المدة، وسيادة ظاهرة بناء القلاع والحصون فيها، بوصفها ضرورات تلك الفترة، بغضّ النظر عن أهدافها ودواعي بنائها.
وكذلك فقد زاد الاهتمام في بناء الحصون والقلاع عند الصليبيين والمرتزقة من فرسان الهيكل والداوية والاسبتارية –فجميع هذه القوى كانت قد امتهنت الارتزاق- كفرقٍ عسكرية ساندت الحملات الصليبية- بوصفها
وسائط عسكرية استشرافية ودفاعية، وفي بعض الأحيان استخدموها في الهجوم على المسلمين وقد حققوا بعض الانتصارات ضد المسلمين، كما أعطتهم -أي: الحصون- موطئ قدم على الساحل السوري، تحقق لهم فيها التواصل مع القادمين من أوروبا عن طريق البحر، كقوى عسكرية وبشرية مساندة للوجود الصليبي في بلاد الشام، وعندما غادروها إلى بلدانهم، كانت القلاع هي آخر منازلهم في الشرق الإسلامي، بعد انتصار المسلمين عليهم وخاصة في معركة حطين في الرابع من تموز 1187م، والتي كانت من أهم الأسباب التي عجلت بالقضاء على الوجود الصليبي في بلاد المسلمين.
دولة القلاع في فترة الحروب:
لا يملك الباحث خلال فترة الحروب الصليبية، من خلال حديثه عن القلاع والحصون، أن يُسقط من بحثه أو دراسته مسألة “دولة القلاع” كما سماها القلقشندي -رحمه الله- فهو أول من أطلق هذه التسمية على أصحاب هذه الدولة، وكانت واحدة من القوى الفاعلة والمؤثرة، التي جاء مولدها ونشأتها في تلك الفترة، وكانت صاحبة نشاط عقائدي باطني، قام على القتل والاغتيال لأمراء المسلمين، وقضاتهم وعلمائهم، من أهل السنة والجماعة، فأصحاب هذه الدولة هم طائفة الحشاشين -أبناء طائفة الإسماعيلية النزارية-، وقد وجد داعية هذه الطائفة ومؤسسها حسن الصباح (428هـ- 518هـ/ 1040م-1124م) أنَّ الاعتصام في القلاع الجبلية أفضل خيار لنجاح دعوته، ومن أجل هذا؛ فقد وقع اختياره على قلعة (آلموت) المنيعة في جبال الديلمان الإيرانية، وفي الشمال الغربي منها، وكان ذلك سنة (483هـ- 1090م)، ومع نشاط دعوته هذه فقد بلغت عدد قلاع طائفته في إيران ما يربو على المائة قلعة، منتشرة في كل أصقاع إيران، ومنها امتدت إلى الشام، وكانت قاعدة هذه الطائفة قلعة مصياف في جبال العلويين، ويلحق بها سبع قلاع أخرى، وكان شيخ الطائفة في هذه القلاع، راشد الدين سنادة، الذي عرف بشيخ الجبل، وقد انتهت دولتهم في إيران على يد الاجتياح المغولي سنة 654هـ- 1256م، وفي الشام أنهى وجودهم الظاهر بيبرس سنة 672هـ 1273م
أهم القلاع في ذاكرة التاريخ:
قلعة صلاح الدين: بناها في القاهرة على جبل المقطم، وذلك قبل خروجه من مصر لتحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين، جاء بناؤها بعد أن أنهى الحكم
الفاطمي في مصر، وقد ابتدأ البناء فيها سنة (572هـ-579هـ/ 1176- 1183م).
قلعة آلموت في إيران: وقد سبق الحديث عن تاريخ نشأتها، على يد طائفة الحشاشين، وأهم الأحداث التي ارتبطت بالقلعة هذه وخاصة ما كان منها ضد المسلمين السنة.
قلعة مصياف: وقد سبق الحديث عنها وعن شيخها كقاعدة لطائفة الإسماعيلية في بلاد الشام.
حصن إنطاكية: وقد سبق الحديث عنه وكيف استولى عليه الصليبيون.
قلعة الكرك: بنيت هذه القلعة بأمر من ملك بيت المقدس (فولك Fulk)، والذي بناها هو الإقطاعي الصليبي (لوبوتاييه)، ثم آل أمرها إلى الإقطاعي (رينو دي شاتيون “أرناط”)، وذلك سنة 1177م، وكان هذا الرجل مجرمًا قطع طريق حج المسلمين، واعتدى على قافلة فيها شقيقة صلاح الدين، وقد تمكن صلاح الدين من قتله بيده بعد أن تم له أسره.
قلعة دمشق: وهي تعد من أقدم الاستحكامات الحربية الإسلامية، فقد بناها الأمويون، وقد لحقها الخراب على يد العباسيين، وقد تعاون الفاطميون مع الصليبيين على تسليمهم دمشق، بعد القضاء على السلاجقة.
قلعة حلب: وقد بنيت قبل الإسلام، وجدد بناءها سيف الدولة الحمداني (420هـ- 1029م)، وأصابها على يد المغول ما أصاب غيرها من بلاد الشام.
فتلك هي القلاع والحصون في ذاكرة التاريخ الإنساني، في نشأتها وفي تاريخ أحداثها، وخاصة منها ما كان في فترة الحروب الصليبية، في بلاد الشام، ومصر وبلدان المشرق الإسلامي.