الحياة مليئة بالصدمات والمفاجآت، وفي أحيان كثيرة تفاجئنا بما لا يخطر على بالنا، فلم نكن نصدق أبداً أن هناك آباء يتجردون من كل معاني الأبوة ويخفون أطفالهم المعاقين، خوفاً من نظرة شماتة قد يجدونها في عيون الآخرين، وربما دفعتهم الوجاهة الاجتماعية الزائفة إلى حبس أطفالهم، وبدلاً من أن يكونوا عوناً لهم، باتوا هم الجلاد الذي يحاسب ويعاقب ويعذب، وتناسوا كل معاني الأبوة والرحمة والحنان.
إكتشاف قصصاً مأساوية لجحود الآباء، وتتساءل متى سيشعر الطفل المعاق بحقه في الحياة؟
ما ذنبي؟
بصوت بريء ممزوج بالبكاء تحدث الطفل ” عبد الله ” ” 10سنوات ” قائلاً: أصبت في حادث سيارة منذ ثلاث سنوات، وأصبحت معاقاً عن الحركة، أشعر أن أبي يكرهني، فدائماً يتجاهلني، ولا يتحدث معي، وكأنه يريد التخلص مني، أبكي وأرتمي في حضنه، فأجد منه الرفض والإنكار، كأنه يريد التخلص مني.
وتابع: في أوقات الأعياد يلهو الأطفال وتكثر الزيارات العائلية، وأظل أنا حبيساً في منزلي، بناء على أوامر أبي، الذي يغتال فرحتي، ويطفئ شموع الأمل في حياتي، وتساءل بصوت حزين: ما ذنبي في إعاقتي؟
ابنتي وحيدة
وعبرت إحدى الأمهات عن أسفها لطلاق زوجها لها بعد ولادتها مباشرة، وقالت : ولدت ابنتي مصابة بإعاقة ذهنية، مبدية حزنها لتجاهل زوجها لابنته، وقالت: عندما علم زوجي بإعاقة ابنتي ” ظل وجهه مسوداً وهو كظيم “، وتركني وحيدة في المستشفى، ولم يشاهد ابنته، بل ولم يسجلها في الأحوال المدنية.
وبكل أسى تابعت حديثها: بعد مغادرتي للمستشفى علمت أن زوجي طلقني بعد ولادتي، وتزوج بأخرى في نفس اليوم، و تساءلت في ختام حديثها: هل ذنبي أني أنجبت طفلة معاقة، ولماذا تجرد زوجي من أبوته وترك ابنته وحيدة، كأنها يتيمة؟
تدريب الآباء
وتحدثت إحدى المشرفات بمركز للإعاقة الذهنية قائلة: لدينا طفلة في المركز وهبها الله جمالاً وخلقاً، وابتلاها بالإعاقة الذهنية، ألحقها والدها بالمركز منذ سنتين، وللأسف لم يزرها في هذه الفترة سوى مرتين.
وتابعت: أحب هذه الطفلة، ودائماً ألمح انكساراً في نظرات عينيها، كأنها تشكو إليها جحود والدها، وعقابه لها على ذنب لم تقترفه، معبرة عن حبها لهذه الطفلة وقالت: عندما أعود من إجازتي للمركز، وتراني ترتمي في حضني، وعيناها تقول لي: كوني بجانبي كي أشعر بالأمان، واقترحت في ختام حديثها عقد دورات تدريبية للآباء الذين ابتلاهم الله بأبناء معاقين.
وقالت إحدى السيدات “س – أ “: إنها سمعت صوت أنين وبكاء في الليل من الفيلا المجاورة لمنزلها، وتصورت أنه صوت الكلب المحبوس إلا أن الصوت بدأ يتزايد واستمر لفترة طويلة، ما دفعها إلى الإبلاغ، واكتشفت فيما بعد أن هناك طفلاً لديه نوع من التخلف قامت أسرته بربطه بسلسلة في الحديقة حتى لا يسبب أي إزعاج لهم، وقالت: أكدت عند إبلاغي ألا يظهروا اسم المبلغ حتى لا تعرف الأسرة وتحاول النيل مني.
مجتمع فضولي
فيما أوضحت الأخصائية الاجتماعية والكاتبة في صحيفة الحياة” سوزان المشهدي”، أن هناك فارقاً كبيراً بين من يحافظ على طفله المعاق ويؤمن بأن الله أكرمه بهذا الطفل ليدخل الرزق على منزله، وبين من يهمله ويخفيه عن أعين المجتمع وكأنه جريمة وعار وصم به، لافتة أن الأب الذي يترك منزله وأولاده بسبب طفل أكرمه الله به أياً ما كان، هو في المقام الأول شخص يحتاج دعماً وليس لديه القدرة على المواجهة، وقالت: ظاهرة إهمال الطفل المعاق ليست من الأب فقط، فهناك أيضاً نساء يرمون أبناءهن، وهناك من لا يتحمل أن يرى ابنه أو ابنته المعاقة. وتعتقد المشهدي أن المجتمع الفضولي يتحمل جزءاً من المسؤولية فهو لا يقبل سوى الكمال ولا يراعي مشاعر الآخرين، حيث نرى معايير ومقاييس موضوعة وتعارف عليها الأفراد، ضاربة المثل بالفتاة السمراء لا تظهر مع أخواتها في الخارج فهذا عيب، ونجد الأسرة تخفيها في المنزل وربما تنكرها أمام الأصدقاء.
الحفاظ على الإنسانية
وأشارت الأخصائية الاجتماعية إلى وجود حالات عدة في التأهيل الشامل ليسوا أيتاماً، بل من أسر كبيرة إلا أنهم لا يستطيعون تحمل المسؤولية، وهناك نماذج كثيرة لحالات فرط حركة ونوع من التخلف الكبير، ما يجعلهم يتطلبون عناية خاصة تصعب على كثير من الأسر، موضحة أنه ليس بالسهل على الآباء فعل ذلك، بيد أنهم غير قادرين على تحمل وجود هذا الطفل في المنزل.
وعن إلقاء اللوم دائماً على المرأة وتحميلها ذنب ولادة طفل مريض، قالت المشهدي: بعض الرجال يلجؤون إلى ذلك كحيل دفاعية حتى لا يلقى باللوم عليه من الطرف الآخر، موضحة أنهم بحاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي حتى يتركوا حالات الإنكار.
وقالت الكاتبة في جريدة الحياة إنه من الأفضل وضع الأطفال في مؤسسة تأهيل في حالة عدم قدرة الأسرة على التعامل معهم، حتى لا يكون مصيرهم التعذيب، مشيرة أن هؤلاء الأطفال بحاجة إلى رعاية بشكل نحافظ بها على إنسانيته وألا نلومه على خطأ لم يرتكبه، مطالبة بضرورة فتح مؤسسات لرعاية هؤلاء الأطفال وتكون إجراءات الدخول بلا تعقيد.
الوضع الاجتماعي لا يسمح
أما الرئيس التأسيسي للجمعية السعودية لرعاية الطفولة الإعلامي معتوق الشريف، رأى أن هناك أزمة اجتماعية كبيرة نتيجة افتقاد ثقافة التعامل مع الطفل المعاق، حيث لا يوجد مجال تشجيعي لتدعيم الطفل وتفعيل حقوقه، ما ساهم بشكل كبير في انتهاك حقوق الطفل المعاق، وهناك من الحالات ما يشيب منها الضمير من حبس وضرب وتعذيب آباء لأبنائهم. وأفاد أن هناك عوامل عدة قد تتحكم في ردة فعل الأب تجاه طفله المعاق أهمها وظيفته ووضعه الاجتماعي، فهناك اعتقاد أن الابن المعاق يقلل من الوجاهة الاجتماعية للأب، ولذلك نجد بعض الآباء يضحون بأبنائهم المعوقين أو يسفرونهم خارج البلد حتى يخفوهم عن أعين المجتمع، لافتاً إلى خطورة الثقافة المجتمعية والتي تنظر للمعاق بشكل دوني.
وأنحى الشريف باللائمة على وزارة الشؤون الاجتماعية في عدم تفعيلها اتفاقية المعوقين لعام 2007 والتي وقعت عليها المملكة، معرباً عن أسفه من عدم قيام الوزارة بأي دور في نشر ثقافة المعوقين ولو حتى بلوائح توضع في الشوارع، متسائلاً لماذا لا يوجد تخصصات داخل الجامعات عن كيفية التعامل مع المعوقين ونشر الثقافة الصحيحة في الجامعات؟
كما لام رجال الأعمال في عدم مساعدتهم لتلك الفئة، وقال: لم يفكر أحد في إنشاء دور حقيقية للعناية بالمعوقين ونشر المفاهيم الصحيحة، وبسؤاله عن دور الرعاية الموجودة بالفعل، أجاب: الهدف منها هو الربح وهناك مئات من علامات الاستفهام عليها.
وفي النهاية دعا الشريف الأسرة التي ابتلاها الله بطفل معاق بالتقرب من الله، وعدم الالتفات إلى النظرة المجتمعية، فربما يكون هذا الطفل هو سبب في فتح أبواب الرزق، وطالب بإقامة مجلس أعلى للمعاقين يكون الهدف منه تقديم الخدمات وتصحيح الصورة الذهنية.
غريزة الكمال
ورأى المستشار الأسري والنفسي الدكتور” خالد الصغير” أن ميل بعض الرجال إلى غريزة التفوق وسعيه للكمال، ورفضه لأي خلل أو نقص يلحق به، هو الدافع الحقيقي الذي يجعله يتجرد من أبوته، لافتاً أن بعض الرجال يرى إعاقة أبنائه قصوراً في قدرته، وأشبه بالعار عليه، مما يجعل سلوكه ينحرف عن التعامل الإيجابي مع القضية، للتعامل السلبي المجرد من الإنسانية.
وقال الصغير: هناك آباء يحتاجون للتأهيل الأبوي ؛فالرجل قبل أن يصبح أباً يحتاج للعديد من المهارات والدورات والمعارف والعلوم وفن التواصل والاتصال مع الآخرين، ومعرفة المفاهيم النفسية في العلاقات الأسرية؛ التي تؤهله لأن يكون أباً تفاعلياً مع حياة الأسرة بالشكل الصحيح الذي لا يؤدي في النهاية للخلل المربك لحياة أصحابها، مؤكداً أن التعامل الجيد مع أفراد الأسرة وكيفية إدارتها بالشكل المناسب يؤدي لمجتمع متماسك دون مشاكل، ليوصلها بسلام لبر الأمان.
و عن تأثير أفعال الآباء على الأبناء شرح المستشار الأسري لـ”سبق ” ما يسمى بـ” التوريث “، فكل ما يدور بين الأب وابنه من خلال التواصل أو الانفصال هو صورة يتم نسخها من قبل الابن بطريق مباشر أو غير مباشر، تنتقل عبر الزمن للعديد من الأسر الصغيرة التي ستتكون مستقبلاً عبر أولئك الأبناء الذين خرجوا من رحم أسرهم الكبيرة ليكون تعامل الآباء، لافتاً إلى تشابه تعامل الآباء الجدد مع أبنائهم بنفس التعامل السابق، الذين يحملون أوصافه في مخيلتهم، إن لم يصاحب ذلك التعامل، أو قبله التوجيه والإرشاد، وتصحيح مسار ما حدث سابقاً مع الابن؛ ليصبح أباً صالحاً مع أبنائه وإنهاء ملف الماضي وإغلاقه.