من حين لآخر، تُواجه الجهات المسؤولة أزمة واضحة لتحقيق «المعادلة الصعبة»، فيما يتعلق بتوسعة الحرم المكي، مع الحفاظ على الآثار الإسلامية.. أزمة كلما هدأت، اشتعلت مجددًا بنيران «التغريدات» على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل ما أثار الانتباه بشدة، حديث بعض وسائل الإعلام عن حرص الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام على التكتم على تفصيل التوسعة، خصوصًا فيما تشهده من بعض الأخطاء، حيث سبق وتداول عدد من المغردين صورًا قالوا إنها لانهيار بعض الأجزاء في المطاف بباب العمرة، قبل أن تخرج الرئاسة وتعترف بالانهيار.
«ماذا يحدث؟»
ببساطة شديدة، تشهد العاصمة المقدسة الآن، أكبر توسعة في تاريخها، وتحديدًا توسعة المسجد الحرام والساحات الشمالية والشمالية الغربية للمسجد، بملغ يتجاوز 80 مليار ريال، بما فيها قيمة العقارات المنزوعة لصالح المشروع.
و«توسعة الحرم» تجري حاليًّا على مساحة 400 ألف متر مربع، وبعمق 380 مترًا، حيث من المقرر أن تستوعب بعد اكتمالها أكثر من مليون و200 ألف مصل، ما يضاعف الطاقة الاستيعابية للمسجد الحرام، ويتناسب مع الزيادة المطردة في أعداد المعتمرين والحجاج.
«آثار إسلامية تموت»
ورغم البعد الهام لعملية التوسعة، إلا أن ثمة معارضة للمشروع يقودها علماء آثار من باب الحفاظ على التراث الإسلامي بالمملكة؛ إذ تقول بيانات معهد شؤون الخليج بواشنطن إن 95% من المباني القديمة التي تعود إلى ألف عام في مكة تم تدميرُها في العقدين الأخيرين.
وفي تصريحات سابقة، رأى د. عبد الرحمن الأنصاري، أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود سابقًا، ومؤسس جمعية الآثاريين العرب، أنه منذ العصر الأموي هدم الأمويون كثيرًا من المعالم الإسلامية، وليس بغريب أن يُهدم كثيرٌ من المعالم الإسلامية في سياق مصلحة المسلمين.
وكانت صحيفة «الإندبندنت البريطانية» أشارت، في تقرير مصور لها، إلى أن عمليات التوسعة ستؤدي إلى هدم بعض أقدم الأقسام في أكثر مساجد الإسلام أهمية، وذلك في إطار عملية التوسيع؛ إذ يظهر فيها عمالٌ ومعهم حفارات آلية، وقد بدؤوا بهدم بعض أجزاء من آثار تعود للدولتين العثمانية والعباسية في الجانب الشرقي من المسجد الحرام بمكة.
وحُفرت العديدُ من الأعمدة العثمانية والعباسية في مكة المكرمة بالخط العربي، وحملت أسماء صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومؤرِّخة لحظات مهمة في حياة نبي الإسلام، ويؤرخ أحد الأعمدة التي يعتقد أنه هدم بالكامل، للإسراء والمعراج.
جدير بالذكر أنه خلال الحكم العباسي زِيدَ في مساحة الركن الشامي الذي كانت به دار النخلة ودار الندوة في أسفله، وشِيدت منارة بالركن الشمالي والغربي، وقام الخليفة المعتضد بالله ببعض الترميمات والتوسعة من سنة 281 وحتى سنة 284، فأمر بهدم دار الندوة وجعلت رواقًا من أروقة المسجد.
«فتاوى مؤيدة»
حكومة المملكة لا تخطو خطوة فيما يخص عمليات التوسعة، دون الرجوع إلى أهل الذكر، ولم تتحرك قبل فتوى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، مفتي عام المملكة، يجيز فيها هدم الآثار بمكة المكرمة لتوسعة الحرم الشريف.
المفتي العام، خلال تعقيب له بعد إحدى محاضراته، في مايو 2013، أشار إلى «أن ما هُدم من آثار في الحرمين الشريفين لا مانع منه، بل إنه من الضرورة، فتوسعة الحرمين عمل شريف، وتُشكر عليه الدولة».
«آل الشيخ» لفت كذلك إلى أن «ما يظن أنه آثار ليس له اعتبار، وإزالة هذه الأشياء، لتدخل ضمن التوسعة، أمر ضروري ولا إشكال فيه».
«تاريخ التوسعة»
كانت أول توسعة للحرم في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في العام السابع عشر من الهجرة، وفيها تمت زيادة مساحة المسجد 560 مترًا مربعًا، واشترى عمر البيوت القريبة من الحرم وهدمها، ثم قام الخليفة عثمان بن عفان في عام 26هــ بزيادة مساحة المسجد لتصبح حوالي 4390 مترًا مربعًا، وكان عثمان بن عفان أول من أدخل الأروقة المسقوفة والأعمدة الرخامية للمسجد الحرام.
وخلال فترة الدولة الأموية قام عبد الله بن الزبير في عام 60هـ بإعادة بناء الكعبة، بعدما شب فيها حريق أثناء حصار جيش يزيد بن معاوية لمكة، وفي عهد الوليد بن عبد الملك كانت التوسعة الرابعة للمسجد سنة 91 هـ وزاد من مساحة المسجد.
وفي القرن الحالي انطلقت مشروعات توسعة الحرم المكي عام 1344هـ عندما أمر الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- بصيانة المسجد الحرام وإصلاحه.
أما عهد الملك سعود والملك فيصل والملك خالد -رحمهم الله- فقد استمرت عملية توسعة وتطوير المسجد الحرام، لتصبح مساحة الحرم 193 ألف متر مربع، وبلغت طاقته الاستيعابية حوالي 400 ألف مُصلٍّ.
واستمرت عمليات التوسعة في عهد الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي وضع في سبتمبر 1988 حجر الأساس لأكبر توسعة للحرم المكي في حينه، وشملت إضافة جزء جديد إلي المسجد من الناحية الغربية، والاستفادة من السطح العلوي للمسجد، والذي وصلت مساحته إلى 61 ألف متر مربع.
ووصل استيعاب الحرم لأكبر عدد أكبر من المصلين آنذاك، ليصل إجمالي القدرة الاستيعابية للحرم مليونا ونصف المليون مصلٍّ، كذلك تم بناء مئذنتين جديدتين ليصبح إجمالي عدد المآذن في وقتها 9 مآذن بارتفاع 89 مترًا للمئذنة.